عام جديد وشاهد ومشهود

من طبائع الإنسان التي فُطر عليها أنه يحزن عند فقدان الأشياء النفيسة، أو فوات ما فيه مصلحته، وبخاصة الأمور الثمينة التي لها قَدْر وقيمة في أعراف الناس.
 ولكن من العجب أننا نجد عكس ذلك مع بداية كل عام جديد؛ فكثير من الناس يحتفلون، ويمرحون، بل، ويهنئ بعضهم بعضًا -بفرح وسرور- بهذه المناسبة. كيف ذلك؟ وعام جديد يعني: مرور سنة كاملة من عُمرك أيها الإنسان، ويعني: نقصان الرصيد الزمني الذي قُدر لك في هذه الحياة، كما أنه يعني: اقترابك أيها الإنسان من المحطة النهائية التي يكون فيه الحساب والجزاء.
أكان ممكنًا أن تكون مثل هذه الاحتفالات والابتهاجات، إذا أخبر الإنسان أن حسابه البنكي قد انتقص! أو أن مخزونًا استراتيجيا ذا قيمة قد أوشك على النفاد! إن الأيام والليالي هي كنز الإنسان الحقيقي في هذه الحياة، وهي مخزونه المستقبلي الذي إذا انتهى، انتهى معه كل شيء.
يقول الحسن البصري:(يا ابن آدم، إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك). ونلحظ أن هذه النصيحة الذهبية من الحسن البصري كانت وليدة مجتمع فهم حقيقة الحياة، وقَدّر فيها ما حقه التقدير فحرص على ترتيب أولوياته والقيام بواجب زمانه. يظهر ذلك من وصفه لأبناء عصره بقوله:(أدركت أقوامًا كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه!).
ولذا كان كثير من السلف لا يحسبون أعمارهم بالسنين، ولا بالشهور، ولا حتى بالأيام، إنما كانوا يعدونها بالأنفاس، مسترشدين بقوله تعالى:( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)(مريم،84). يقول ابن عباس:(أي أنفاسهم التي يتنفسون في الدنيا، فهي معدودة..).

قد يبرر بعض الناس سعادته بانقضاء عامٍ واحتفاءه بقدوم عام ما حققه من إنجازات ونجاحات على المستوى الشخصي والعائلي والمجتمعي والأممي، فخُططه التي وضعها مع بداية العام المنصرم وحَرِص على اتباعها قد تحوّلت إلى واقع، وتصوراته وأحلامه باتت حقائق، ومشروعاته المتنوعة في عمارة الأرض قد انتفع منها القاصي والداني، وإسهاماته الشاملة في جوانب الحياة تجاوزت الواقع لتسهم في بناء المستقبل، وجهوده في الإصلاح شاهدة له ومشهودة من الجميع، ربما يكون من حق هؤلاء أن يفرحوا عند محاسبة أنفسهم على رأس عام مضى، فقد أسسوا معالم تشفع لهم عند الحساب الأكبر، وآثارًا تذكّر بهم عند الرحيل، ومواقف يقتدي بها الأجيال عبر التاريخ.

ولعلّ هؤلاء هم الذين صَغَت آذانهم إلى نداءات الأيام مع  إشراقة كل صباح، فأَقْلَقت مضاجعهم، وفجّرت طاقاتهم، وأيقظت حس الرقابة والوعي في خواطرهم، فحرّكت فيهم روح العمل والعطاء وسَمَت بهم إلى تطلعات الإبداع والإتقان. يقول الحسن البصري عن صيحة يوم المؤمن الذي يبدأ مع الفجر: (ما من يوم ينشق فجره إلا ينادي: يا ابن آدم! أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة).

إن كثيرًا منا تمر عليه الشهود من الأيام والأعوام بسجلاتٍ فارغة لا ترى فيها أثرًا لعملٍ نافعٍ، ولربما كان الأفضل في بعض أحوالها أن ترى تكرارًا رتيبًا لا قيمة له، في يومٍ كالأمس، وغدٍ كاليوم! فلا تطور ولا تغيير، ولا تخطيط ولا تفكير، ولا حركة ولا نفير، مما تسبب في إصابة الأمة ٍبوهنٍ غير معهود، وجمود خانق داخل مجتمعاتها، ويأس وإحباط بين أفرادها، وهزائم وانكسارات حوّلت الأمةً من شاهدة على الأمم في المنزلة والواقع كما أرادها الله إلى مادة للمشاهدة، وحدثٍ للتحليل والتعليق مع كل صباح وفي كل مساء، فأضحت أرضها وأوطانها مسرحًا مشهودًا للمجازر البشرية الرهيبة التي قضت على بسمات الأطفال، وحطمت أحلام الشباب، واستباحت أعراض الحرائر العفيفات، وسلبت المقدسات، وسرقت مقدرات الشعوب، وحبست الحريات والأقلام، وكممت العقول والأفواه، وألهت الشعوب بمتع الحياة وشهوات البطون، ومكّنت للفاسدين والفساق، وقهرت المصلحين والعباد.

لا يمكن لأمة هذا حالها أن يستقبل أفرادها عامًا جديدًا باحتفاء وسرور، إلا أن يكونوا قد قاموا لله مثنى وفرادى بعزيمةٍ صادقةٍ تأبى إلا أن تعود الأمة شهيدة بالحق على الأمم ومشهودة في مواطن الصلاح والإصلاح، وإرادةٍ صامدةٍ لتغيير الأحوال والنوازل، وذلك من خلال تغيير النفوس والعقول والأرواح والأفكار والعلاقات والوسائل والأساليب. يقول تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد،11).

 هذا هو الطريق، وإلا  فلنردد خلف الشاعر المكلوم: فمن للأمة الغرقى إذا كنا الغريقينا؟ ومن للغاية الكبرى إذا صغرت أمانينا؟ ومن للحق يجلوه إذا كلت أيادينا؟

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها