عاطف بركات باشا أكفأ أساتذة الفكر العربي في العصر الحديث

محمد عاطف بركات باشا (1872 ـ 1924) واحد من كبار التربويين المصرين المؤثرين في العصر الحديث ،  وإذا كان هناك أستاذ مرب مؤثر في التعليم المصري جمع بين آثار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وعلي مبارك باشا أبو التعليم  و الزعيم سعد زغلول باشا فإنه عاطف بركات قبل غيره ، وقد استأثرت استاذيته عن أستاذية المعاصرين له من الأساتذة الكبار بخاصة نادرة وهي أنها كانت أستاذية فكر لا أستاذية موضوع أو تخصص ، ولهذا فإنها آتت ثمارها متفوقة في الأركان الثلاثة أي في المنهج والموضوع و من قبلهما في الفكر ، وقد عاش هذا الرجل أستاذيته بكل كيانه ولم يصرفه عنها مكانه المتقدم في السياسة ، ولا مكانته المرموقة في المجتمع ، ومن ثم فقد أصبح نسيج وحده من حيث كان رائدا وموجها بأكثر منه أستاذا،  و من حيث كان استاذا بأكثر منه عالما ، و من حيث كان عالما بأكثر منه باحثا،  وكان في كل هذا بمثابة النموذج العكسي ( البارادوكسي) لما يصنعه التعليم الجامعي مع المشتغلين بالعلم في صعودهم مدارج الرقي الفكري ، ومع أنه صعب التكرار فقد كان ثمرة طبيعية لظروف نادرة في مرحلة فارقة مع حظوظ باهرة ، ولهذا فقد كان الذين يتمنون له أن يتولى وزارة المعارف يعبرون عن أمل رفيع المستوى لهذا الوطن وللتعليم فيه لولا أن عمر الرجل لم يُسعفه. وقد استوفى هذا الباشا حظه من الحياة الدنيا في عام وفاته 1924 فقد كان مرشحا ليكون وزيرا للمعارف في وزارة الشعب الأولى فأصبح وكيلا للوزارة ونال الباشوية، وتوفي في وقت رئاسة خاله سعد زغلول باشا للوزارة التي كان شقيقه وزيرا للزراعة ثم للداخلية فيها

الأجيال و الاستاذية

أبدأ الحديث عن عاطف بركات باشا بالإشارة إلى حقيقة مهمة وهي أن لكل علم من أعلام الفكر والثقافة والطب والأدب أستاذ يتمثله ويهتدي به قد يكون هذا الأستاذ هو أستاذه الرسمي أي الذي تخرج على يديه، وفي مدرسته، وقد يكون هذا الأستاذ هو أستاذه الروحي الذي ارتبط به رغم أن مقاعد العلم لم تجمعهما لأن العلم نفسه في انتقاله من الأستاذ إلى التلميذ لا يحتاج إلى مقاعد، وقد يكون هذا الأستاذ بعيداً عن تخصص التلميذ، وقد لا تكون هناك صلة في التخصص من الأساس وإنما هو المنهج.. وهكذا. فإذا تناولنا هذه القضية في الاتجاه العكسي وقلنا إن لكل أستاذ تلميذ وريث، يرث مجده، وأسلوبه ويضيف إليه فإننا لا نتجاوز طبائع الأشياء ولا سنة الله التي سنها للبشر. وها نحن ننتقل إلى محور ثالث يسأل هل يلزم للعظمة أن يكون الأستاذ عارفا بأن هذا هو تلميذه المفضل، وأن يكون التلميذ عارفاً ومقراً بأن هذا هو أستاذه المفضل؟ والإجابة معروفة نسبيا، وهي : ربما نعم،  وربما لا.

بعد هذه المقدمات القصيرة أحب أن أقرر بكلّ وضوح أن الأستاذ عاطف بركات باشا كان هو الأستاذ المفضل والأثير للأستاذ أحمد أمين، وأن أحمد أمين كان التلميذ الذي ورث عن عاطف بركات باشا، أقصى ما يُمكن أن يورث من رجل بطبيعة عاطف بركات، وإن كان عاطف بركات قد توفي قبل أن يرى مجد أحمد أمين وقبل أن يرى اعتراف أحمد أمين العميق بأستاذيته. وهذه هي طبيعة الحياة الدنيا حين تُطوى الأعمار وتقصر من دون أن يستطيع لها الإنسان حسابا ولا توقعاً.  هل أقطع الحديث الذي أقدم به عن عاطف بركات لأروي أن أحدا أساتذتنا الأفاضل من كلية غير الطب قابلني ذات مرة في مناسبة اجتماعية ، فإذا به يقول  إنه ذهب لزيارة قبر أستاذي في الأسبوع الماضي، و وقف على قبره وقرأ الفاتحة وأقرأه السلام، ثم أُنهى إليه خبر بعض نجاحاتي الأخيرة، وقال له ، إن حدسك صدق ، وإن ابنك الروحي قد أنجز ما كنت تتوقعه له ، وفوجئ من شهدوا هذا الحديث العابر بي ، وقد غبت عن الوعي نصف غياب ، وأنا أسأل هذا الأستاذ الجليل عن انطباع أستاذي  حين سمع منه هذا الذي ذهب لإخباره به فيما يتعلق بي فإذا بالرجل الفاضل يُجيبني في هدوء وثقة مقلداً رد فعل أستاذي  كما لو أنه كان على قيد الحياة. فيما بعد ساعات اتصل بي واحد من الأصدقاء الذين حضروا الواقعة فقال لي إنه يريد أن يخبرني أنه كاد يشك في جنوني وجنون الأستاذ الذي تلقى سؤالي، فلما سمع منه الإجابة انتابته رعشة مفاجئة سرعان ما تحولت إلى سكينة ثم إلى ما يشبه الغياب عن الوعي، وإنه في غيابه عن الوعي أخذ يشاهد الدنيا كلها وكأنه في فيلم سينمائي سريع كفيل بأن يهز كل قناعات الإنسان مهما كان مادي النزعة. وختم هذا الصديق حديثه بقوله: جزاكما الله عني كل خير، فإذا بي أقول له: ادع لأستاذنا قبل أن تدعو لأي منا.

نجاحه الساحق في تكوين شخصيات قادرة على قيادة الفكر

لم يكن هذا الاستطراد الذي انتهيت منه لتوي استطراداً في واقع الأمر لكنه في الحقيقة هو أبلغ تصوير استطعت أن استحضره لأصوّر أثر شخصية الأستاذ عاطف بركات باشا في تلاميذه النجباء الذين ربّاهم قبل ان يُعلّمهم، وصقلهم قبل أن يُخرّجهم، وحضّرهم قبل أن يُثقفهم، وقوّمهم قبل أن يؤهّلهم، وهكذا فإنه استطاع تحقيق كلّ هذا النجاح لهم بحكم ما تعلمه في مصر وبريطانيا من أصول العلم والمناهج والتربية والفكر والحضارة. ومن الطبيعي أن هؤلاء الأعلام ظلوا يفاخرون بهذا على الدوام على الرغم من أن عاطف بركات لم يمنحهم الدكتوراه ولا الماجستير وإنما منحهم ما هو أعز وأعظم من هذا بكثير.

أكون ظالما للحقيقة لو أني لم أشر إلى أحد أهم عوامل النجاح في تجربة أستاذية عاطف بركات /، فقد كان نظام هذه المدرسة التي أسسها وصنع رجالها يتيح له المسئولية عن تعليمهم العام والجامعي معا أي أنه كان يتسلمهم فتيانا ويخرجهم رجالا ومن ثم فإنه كان يبني في كل عام على ما تحقق وتراكب و تراكم وتراكز في الأعوام السابقة.

عُني عاطف بركات باشا بأنماط التفكير في تلاميذه فلم يشغلهم بالفلسفة ولا بقادة الفكر من الفلاسفة ، وإنما جعلهم في دراستهم يتعاملون مع الفقه بالفكر ، ومع القضاء بالفلسفة ، ومع النظام بالقانون ، ووطأ لهم بذكائه التربوي المتمرس الاتصال المباشر بالجوانب التطبيقية لعلوم الفلسفة وعلم المنطق وعلم النفس والعلوم الاجتماعية.

وقد استطاع عاطف بركات باشا أن يُنجز هذا كله من خلال اختياره الذكي للمناهج والكتب المرجعية والمقررات الدراسية حيث رسم خططه في تكوين هذا المنهج بما كان يتمناه في خريجي معهد علمي رفيع القدر ورفيع  في ميدان تخصصه و دراسته و عمله كمدرسة القضاء الشرعي وما كان يتصوره فيهم من قدرة على الحكم على الأمور.

طبيعة ريادته

كان عاطف بركات في عمادته رائداً من حيث هو قدوة، ورائداً من حيث مؤسس منهجي لم يتكرر مثله حتى الآن. وإذا كان هناك من عمداء الكليات الجامعية  والمدارس العليا المصرية من أعطوا تأسيس مدارسهم العليمة حقا زائداٌ حفظته لهم الأجيال فإن عاطف بركات باشا يأتي في مقدمة هؤلاء ومعه الدكتور مشرفة باشا، و الدكتور علي باشا إبراهيم ،والدكتور حسين فوزي، فقد قضى عاطف بركات باشا (مثله مثل مشرفة باشا )أربعة عشر عاماً في العمادة ، وقضى الدكتور علي إبراهيم أحد عشر عاما عميداً لطب القاهرة ، وقضى حسين فوزي عشر سنوات عميداً لعلوم الإسكندرية،  وقد كان كل من مشرفة باشا وعلي باشا إبراهيم أول عميد مصري وكان عاطف بركات العميد المؤسس وكذلك كان الدكتور حسين فوزي، وفي تلك العمادات على سبيل المثال البارز بذل كل من هؤلاء جهده الدائب و البازغ في تكوين شخصيات علمية على أعلى مستوى أفادت المجتمع المصري والعربي بعد ذلك، وحتى لا نبتعد عن عاطف بركات فيكفي أن نذكر أنه كان الأستاذ المباشر والعميد الأثير لاثنين من أبرز عمداء كلية الآداب في جامعة القاهرة وهما الاستاذان أحمد أمين وعبد الوهاب عزام ، والثاني هو مؤسس جامعة الرياض ورئيسها حتى وفاته،  كما أنه  كان الأستاذ الأثير لعدد ممن تولوا أرفع المناصب الدينية بهمة واقتدار وتخرجوا على يديه في تلك المدرسة ومنهم الشيخ حسن مأمون شيخ الجامع الأزهر، والشيخ محمد أحمد فرج السنهوري وزير الأوقاف ، والشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية، و الفقيهان الكبيران الشيخان عبدالوهاب خلاف وعلى الخفيف اللذان حملا عبء أستاذية الشريعة في كلية الحقوق ، والشيخ أمين الخولي وكيل كلية الآداب .

ربما أتوقف هنا لأنفي معلومات خاطئة كثيرة التردد ضمت إلى هؤلاء عددا آخر من أعلام الفكر لم يتخرجوا في مدرسة القضاء الشرعي وإن كانوا قد زاروا حديقتها ، أو مكتبتها ، أو مروا على أرصفتها لكن بعض الباحثين نسبهم إليها من باب الاشتباه .

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فإنه حين بدأت الجامعات الإقليمية في استكمال كلياتها لتكون مشابهة للجامعات القديمة أو لجامعة القاهرة بصفة خاصة ، فإن جامعة المنيا رأت أن تستنسخ تجربة كلية دار العلوم، وقد نجحت في هذا ، وصدرت قرارات تأسيسية لدار العلوم في المنيا، لكن رأيا جامعيا قال بأن يبقى اسم دار العلوم لكلية دار العلوم في جامعة القاهرة وحدها، كحق تاريخي على أن تسمى كلية دار العلوم التي أنشأت في المنيا باسم آخر مناسب هو كلية الدراسات العربية والإسلامية ، وأذكر أنني كنت في زيارة الدكتور محمد عزت خيري أستاذ الكيمياء والأمين العام للمجلس الأعلى للجامعات حين كان قد انتهى لتوه في ذلك اليوم بالاتفاق على هذا ، وإقناع أولي الأمر في جامعة المنيا به، لكن الزمان سرعان ما مرّ فإذا بفرع جامعة القاهرة في الفيوم (قبل أن يتحول إلى جامعة الفيوم) يحصل على الموافقة على إنشاء دار العلوم في الفيوم، لتكون الآن من حيث الرسميات ثاني كلية موجودة بهذا الاسم، وإن كانت في واقع الأمر ثالثة الكليات التي تأسست بهذا الاسم وعلى هذا النمط ، ولا أزال أدعو الله أن يوفقني للمساهمة في إنشاء كليتين أخريين لدار العلوم في الإسكندرية والدلتا وثالثة في سيناء.

وإذا قيل أن مدرسة القضاء الشرعي قد فقدت مبرر إعادة التفكير في وجودها بعد أن أخذ الأزهر بمبدأ الكليات الجامعية ، فتخطاها تماما ، وأصبحت كلية الشريعة في جامعة الأزهرمنذ تأسست على أساس أكاديمي سليم أرقى وأفضل من مدرسة القضاء الشرعي بكثير، فإن هذا لا يعني عدم جدوى الإفادة من تجربة الطراز الذي أسسه عاطف بركات ورعاه ، بل إننا مطالبون بتوسيع مدى الدراسات المتكئة على الشريعة الإسلامية إلى آفاق تربوية واجتماعية من هذا القبيل الذي يستهدف التأهيل لوظيفة محددة مع عدم الابتعاد عن الروح الجامعية ، ذلك أن مثل هذا الطراز المحدود لا يزال يُنبهنا إلى الحاجة إلى استنساخه سواء في تطوير بعض الكليات الأزهرية المستحدثة في دراسة العلوم الدينية (ككلية الدراسات الإسلامية و العربية ) إلى نمط ذي طبيعة خاصة لتكون هناك دراسة للشريعة والتربية على سبيل المثال، حتى إذا لم يكن بالإمكان أن تطور كوادر هيئات التدريس بتأهيل مواز في علوم النفس والاجتماع بما يُمكن الطلاب من مفاهيم أكثر رحابة من المفاهيم التي يدرسونها الآن.

نجاحه البارز في تجسيد الفكرة

وبعيداً عما يختلف فيه أساتذتنا الذين يكتبون تاريخ مؤسساتنا العلمية من خلال التاريخ الوطني وصراع الطوائف والقوى الاجتماعية فحسب مغفلين ما هو اهم من هذا وهو تطلعات قادة الفكر الوطني إلى تحقيق الوسائل الكفيلة مع الزمن بإنجاز تحوّل نوعي في أداء الوظائف العامة، فإني أذهب إلى ما لم يذهب إليه غيري من أن علي مبارك باشا (1823 ــ 1893) الملقب عن حق بأبي التعليم ، كان حفيا إلى أبعد حد بأن يُحقّق في نظم التعليم المصري طفرة يتفوّق بها على التعليم الفرنسي والبريطاني معاً،(من دون أن يصرح بهذا)  وقد كان على صلة بهما معا فقد كان هو نفسه كما نعرف قد تعلّم في فرنسا وخاض تجاربه التعليمية على مدى سنوات، وظل على اتصال بهذه الثقافة طيلة ما تبقى من حياته، وعلى صعيد آخر فإنه كان بحكم مسئوليته عن المدارس ثم عن المعارف (والأشغال معها) على صلة وثيقة بالتعليم البريطاني في بلادهم، وما يفرضونه من أنماطه في مستعمراتهم أوفي مناطق نفوذهم مثل مصر.

 وفيما يبدو واضحاً لكل ذي بصيرة فقد رأى علي باشا مبارك بموسوعيته وبقدرته على إحياء عصر الموسوعات وتحقيق نهضة للفكر والتربية، وما يتطلبه عصر الموسوعات والخطط أن تطوير التعليم المصري لا بد أن يتم في إطار ما هو موجود في مؤسسة عريقة اسمها الأزهر الشريف، وإن هذا التطوير يمكن أن يتم بخطوات أسرع وأكثر أماناً واستقلالاً إذا ما تمّ من خلال ما نسميه الآن مؤسسة المستهلك النهائي ، وفي حالة مؤسسات إعداد المعلمين فإنها هي وزارة المعارف ، و في حالة إعداد القضاة فإنها هي وزارة الحقانية .

  وهكذا رأى علي مبارك باشا أن أسلوب المدارس العليا المهنية الذي تأخذ به بريطانيا يمثل نموذجاً قادراً على استيعاب هذه الغاية من التطوير التعليمي في مستوى الخريجين، لكنه أراد لهذه المؤسسات الجديدة التي كان ينتوي إيجادها أن تتحرر من الإطار البريطاني الصارم الذي يجعلها تقصر الأفق المتاح لخريجيها على المجال الوارد في اسمها وأن يتحول بها إلى أن تصبح شبيهة بالجامعة المصغرة على النحو الذي هو متاح في بعض المدارس العليا الفرنسية.

 وهكذا وجد علي مبارك توافقا في نفسيته مع طريقة الفرنسيين في الإيحاء بالاسم ليكون قادراً على الاستيعاب بدلاً من صرامة التحديد البريطانية، وهكذا اختار لدار العلوم هذا الاسم الواسع أو المحلق ذي الإيحاء الواسع الذي يذكر به اسم من قبيل كوليج دو فرنسا أي “كلية فرنسا” فحسب، مع أنها أصبحت مؤخراً جامعة محتفظة بالاسم نفسه ومضيفة إليه كلمة “جامعة” أي أنها أصبحت جامعة كلية فرنسا.

مما لا يسجله التاريخ التربوي صراحة أن علي مبارك كان ينظر إلى الطب والقضاء نفس النظرة التي ينظرها إلى علوم اللغة العربية والأدب العربي، وعلى حين أنه أنشأ دار العلوم فإن كثيرين من خلفائه حرصوا مرة بعد أخرى على أن ينهوا وجود هذا الاسم الذي لم يكن يوحي بما توحي به أسماء المدارس العليا الأخرى فلا هو كمدرسة المهند سخانة وكمدرسة المعلمين العليا ولا كمدرسة الزراعة.. الخ، وبالفعل فقد عدلت الدولة (والحكومة) عن اسم دارالعلوم إلى اسم آخر هو دار المعلمين الناصرية واستمر هذا الاسم بعد إلغاء اسم دار العلوم لفترة طويلة، ثم عاد حنين الخرجين القدامى إلى اسم المدرسة التي تخرجوا فيها فأعادوه حين أتيح لهم أن يكونوا أصحاب القرار.

لست أحب الاستطراد إلا أني أتظاهر به لأمرر ما أريد مما يظنه بعض القراء بعيداً عن النهر المتدفق لما أتحدث عنه، وها أنا ذا أستطرد لأقول إن علي مبارك هو الذي حول مدرسة الطب من النظام الفرنسي إلى النظام البريطاني على عكس ما كان متوقعا من مثله، ولا تزال تلك المدرسة على عهدها باللغة الإنجليزية منذ ذلك الحين ، وأستطرد مرة أخرى لأقول إن التطويرات أو التعديلات التي أحدثها علي باشا مبارك في مدرسة الطب كانت محل سخط وانتقاد الأطباء من طبقة أعلام الطب المصري الحديث وفي مقدمتهم علي باشا إبراهيم وزملاء علي إبراهيم باشا وتلاميذ علي إبراهيم باشا الذين أنا من ثالث أجيالهم.

أظن أن القارئ فهم ما أردته من هذا الاستطراد وهو أن المؤسسات التقليدية بما فيها ما أسسه علي مبارك باشا نفسه أو (شرع في تأسيسه أو أتم تعديله) لم تكن على الدوام مرتاحة إلى هذا الأسلوب في التطوير والاستحداث، وهو أمر طبيعي، يحسب لعلي مبارك فيه شجاعته وقدرته على الإنجاز القابل للحياة إذا ما وجد من هو قادر على نفخ الروح فيه.

وهنا نستطيع أن نفهم دور عاطف بركات في مدرسة القضاء الشرعي فقد استطاع هذا الرجل أن يبعث هذه المدرسة متوجا مراحل وجودها الذي تحول من فكرة متخيلة إلى فكرة مخططة. فقد بدأت المدرسة وجودها التخيلي بما وضعه على مبارك باشا بالمواكبة لتصوره لدار العلوم ولتطوير مدرسة الطب وإن لم يتح له أن يوجد مدرسة القضاء الشرعي بهذا الاسم أو بغيره من الأسماء. ثم جاء دور وجودها القانوني أو الرسمي أو التنفيذي على يد سعد زغلول باشا وزير المعارف (وخال عاطف بركات نفسه) استجابة لوصية أستاذه الشيخ محمد عبده التي حاول إنفاذها وشرع في إنشاء المدرسة لكن العمر لم يُتِح له فرصته لإخراج فكرته حيز الوجود.

نحن إذن في حالة مدرسة القضاء الشرعي نواجه الوجود في صوره الأربعة:

–        الوجود التخيلي           : علي مبارك باشا        182٣ ــ 1893

–        الوجود التخطيطي        : الشيخ محمد عبده         1849ــ 1905

–        الوجود التنفيذي           : سعد زغلول باشا        1859 ــ 1927

–        الوجود الحي              :عاطف بركات باشا      1872 ــ 1924

دوره المؤسسي في مدرسة القضاء الشرعي

 لم يكن محمد عاطف بركات باشا ، في مدرسة القضاء الشرعي ، صاحب دور فكري أو توجيهي فحسب لكنه بلغة التنفيذيين والتربويين كان صاحب دور مؤسسي وتنفيذي كبير في هذه المدرسة التي أدارها وأكسبها ملامحها المتميزة التي بقيت لها طيلة الفترة التي عاشها، وقد بدأ مهامه بأن اختار لهذه المدرسة أكفأ العناصر من مدرسي الأزهر ووزارة المعارف علي حد سواء، وسرعان ما نجح في تحويلها لتكون بمثابة المدرسة العليا النموذجية في زمنها.

 وقد أفادت المدرسة من شخصيته كما أفادت من جهوده، وتحفل الكتابات التي تحمل طابع الذكريات المتاحة عن تلك الفترة بروايات لا نهاية لها عن دور محمد عاطف بركات باشا الرائد في  مدرسة القضاء الشرعي ، وعن أثره الممتد في تلاميذها، وفي مقدمة هذه الكتابات ما ذكره أحمد أمين في مذكراته الذي أفاض في الحديث عن دور عاطف بركات في هذه المدرسة وما نجح فيه من تربية تلاميذها علي الاعتزاز بالنفس، والكرامة، وحب الاطلاع، والتخلق بالأخلاق الكريمة، والرغبة الصادقة في تحصيل العلوم علي اختلافها،  أننا وبالإضافة إلي توليه نظارة المدرسة فقد اختص عاطف بركات نفسه بتدريس علم الأخلاق فكان نموذجا للأستاذية الناضجة ، وكان يناقش الطلبة في أوقات فراغهم، و يقف منهم مواقف سقراط، وكذلك كان شأنه مع الأساتذة، يجلس معهم ويستمع لحديثهم، ويعارضهم و يعارضونه  .

وقد قام السلطان حسين كامل بزيارة المدرسة عقب توليه الحكم (٥١٩١) فأعجب بها، وأنعم علي   محمد عاطف بركات  برتبة البكوية من الدرجة الأولي.

وفي عهد وزارة الشعب اختير محمد عاطف بركات باشا ليتولى منصب وكيل وزارة المعارف (٤٢٩١) وأنعم عليه بلقب باشا، ويروي أنه كان حريصاً علي الضبط والرباط حتي إنه كان يسجل المكاتبات في سجلات، ويحتم وجود الرد عليها بعد ثلاثة أيام من تاريخ ورودها .

 خلافه مع البيروقراطية المصرية التقليدية

لا يمكن لنا أن ننكر فضل سعد زغلول على عاطف بركات باشا في مراحل تكوينه ثم في مرحلة نظارته لمدرسة القضاء الشرعي حيث كان بمثابة الهرم الكبير الذي كان عاطف بركات يستند إلى دعمه الجاد والمستمر وقل مثل هذا في حالة وزراء المعارف التالين لسعد باشا و في مقدمتهم أحمد حشمت باشا الذي حافظ لعاطف بركات باشا على قوة الدفع واستقلال الإرادة .

ترك عاطف بركات باشا نظارة مدرسة القضاء الشرعي بسبب الخلاف مع رئيس الوزراء محمد توفيق نسيم باشا في وزارته الأولى، وكان نسيم باشا الذي لم يُصب بفيروس الوطنية على حد وصفه لنفسه السبب في ترك الشيخ محمد بخيت المطيعي لمنصب المفتي على نحو ما كان من ترك عاطف بركات باشا لمنصب ناظر القضاء الشرعي ، وقد كان نسيم باشا في ذلك الوقت أصغر من وصل إلى رئاسة الوزارة بعد سنة واحدة من دخوله الوزارة وهكذا كان مهيئا للتعصب والعصبية و لتصعيد الأمور إلى درجة الافتراق.

ومن الطريف أن لنسيم باشا بسعد زغلول وعائلته علاقة غير مشهورة ، لكنها تدلنا على أن اعتداد هذا الجيل بالرأي كان يتفوق على أية اعتبارات أخرى، كانت هذه الصلة من خلال أحمد فتحي زغلول باشا وكيل وزارة الحقانية و شقيق سعد زغلول الذي لا نثني على سعد زغلول باشا  إلا ويستحضر لنا أصدقاؤنا العدميون اسمه باعتباره قاضيا في محكمة دنشواي، وذلك على الرغم من ان هدي نبينا عليه الصلاة والسلام نهانا عن هذا ، فقد كانت شقيقة محمد توفيق نسيم باشا زوجا لأحمد فتحي زغلول باشا ومع هذا فإن نسيم باشا  وقف هذا الموقف من صهره عاطف بركات باشا .

و إذا كان الشيء بالشيء يُذكر فإن سعد زغلول باشا نفسه اختار نسيم باشا وزيراً للمالية في وزارة الشعب الأولى ، وهكذا كان على عاطف بركات باشا وكيل وزارة المعارف أن يتعامل مرة أخرى مع نسيم باشا و قد أصبحا في موقعين مختلفين، ولو أن عاطف بركات باشا كان قد تولى وزارة المعارف كما كانت التطلعات تسير و تشير لتزامن هذا مع تولي نسيم باشا للمالية ، ومن الجدير بالذكر أن نسيم باشا الذي تولى رئاسة الوزارة ثلاث مرات كان يصغر عاطف بركات باشا في السن بثلاث سنوات  لكنه لا يحظى في تاريخنا بعشر ما يحظى به عاطف بركات باشا من الذكر الحسن والاحترام والتقدير .

نشأته وتعليمه

اسمه بالكامل محمد عاطف عبد الله عبده بركات، يروي أن نسب عائلته ينتهي إلي أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان أبوه ناظر قسم دسوق، وهي وظيفة إدارية وحكومية كبيرة، لكنه اعتزل الخدمة بقرار من إسماعيل صديق باشا المفتش صاحب السطوة في عهد الخديو إسماعيل، أما أمه فهي كما ذكرنا أخت الزعيم سعدزغلول باشا. أرسله أبوه إلي مصر في سن الحادية عشرة بعد أن حفظ القرآن في كتاب القرية، فدرس في مدرسة الجمالية الابتدائية مع اثنين من أخواله وهما عبد الرحمن زغلول الذي تخرج أيضا من دار العلوم ، وعبد الله زغلول وكان هو أصغر من خاليه ، ودرس بالأزهر نحو أربع سنين، والتحق بدار العلوم (٠٩٨١)، وتخرج فيها (٤٩٨١)، وسرعان ما اختير لبعثة علمية إلي انجلترا في سنة تخرجه مباشرة (٤٩٨١).

يروي الدكتور محمد عبد الجواد أنه كان قد قدر لعاطف بركات أن يعيش مع خاله سعد زغلول باشا في بيته بعابدين، وكان يأكل معه علي مائدته، و يتلقى عنه أساليب الحياة، ودروس الرجولة والشجاعة والكرامة، وقد بقي مع خاله حتي سافر في بعثة إلي أوروبا، وقد عاد إلي السكن مع خاله أيضا بعد عودته من أوروبا.

كان عاطف بركات باشا أول مبعوث إلي انجلترا من أبناء دار العلوم، وفيما بعد سنوات قليلة لحق به ألمع خريجي دار العلوم في هذا الجيل، وهو الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش 6781- 9291.

الأستاذ الذي لم يعمل بالتدريس وبدأ حياته موجها

لما عاد عاطف بركات باشا من بعثته ،  لم يعمل بالتدريس، بل عين مباشرة مفتشا في المدارس الأميرية، وكان المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف المستر دنلوب يحترمه ويقدره، ويكل إليه الفصل فيما يكون من نزاع بين بعض مدرسي اللغة العربية ونظار المدارس، ثم كلفه (٣٠٩١) بدراسة إصلاح التعليم الأولي في الكتاتيب ، وأن يختار من يشاء من خريجي دار العلوم، لمساعدته في هذه المهمة  أن  يتزيوا بزي المشايخ  لا بالزي الإفرنجي ، حتي لا يرتاب فقهاء المكاتب في هؤلاء المفتشين، وقام عاطف بركات بهذه المهمة على أتم وجه .

ثم جاءته الفرصة الكبرى لدخول التاريخ التربوي والفكري من أوسع أبوابه حين أنشئت مدرسة القضاء الشرعي في عهد تولي خاله سعد زغلول وزارة المعارف فاختير ليكون ناظرا لها، على نحو ما ذكرنا.

مشاركاته السياسية في ثورة 1919 ونفيه إلى سيشل  

كان عاطف بركات باشا من قادة العمل السياسي في ثورة 1919 وبالطبع فقد أوذي في وظيفته بسبب هذه المشاركة ثم كان من الذين نفوا مع سعد زغلول باشا والنحاس باشا وشقيقه فتح الله باشا وسينوت حنا و مكرم عبيد إلى جزيرة سيشل

مقال الأستاذ أحمد أمين النموذجي في التعريف به

نبدأ بأن نشير إلى أن هذا المقال منشور أيضا في الجزء الثامن من كتاب فيض الخاطر مع الإشارة إلى تاريخ مولد محمد عاطف بركات في عنوان الفصل على أنه في ١٨٦١ وهو مالم يرد في أي مصدر آخر.

يقول الأستاذ أحمد أمين:

” من الأقوال المأثورة أن كل إنسان إما أن يكون أفلاطون أو أرسطو؛ يعنون بذلك أنه إن غلب عقله عواطفه كانت نزعته أرسطاطالية، وإن غلبت مشاعره عقله فنزعته أفلاطونية. ونستطيع قياسًا على هذا أن نقول: إن كل متصدٍّ للإصلاح وقيادة أمور الناس إما أن يكون عليًّا أو معاوية؛ فإن غلب عليه تحرِّيه للعدل المطلق في كل صغيرة وكبيرة، وعدم رضاه عن أي ظلم مهما كانت نتيجته، فهو أقرب إلى نزعة عليٍّ، فعنده أن الخط إما أن يكون مستقيمًا أو أعوج، ولا شيء بينهما، ويحب عليٌّ السير في الخط المستقيم دائمًا من غير نظر إلى العواقب. أما معاوية فشيء آخر، يرى أن الغاية تبرر الوسيلة، وهو يعلن عن سياسته بقوله: «إنَّا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل»، فمن سار على هذا النهج وارتكب الظلم أحيانًا بغية الوصول إلى نفع كبير فهو أميل إلى خطة معاوية”.

“والسياسيون، عادة ، من قبيل معاوية، ينحرفون عن الحق أحيانًا بحجة أنهم يقصدون إلى منفعة كبرى، وينظرون إلى المسائل السياسية نظرة البائع والمشتري؛ يدفع الثمن ظنًّا في الربح، فهم يضحُّون بالحق أحيانًا أملًا في تحقيق حق أكبر، وقد يخدعون بذلك أنفسهم. وقادة مصر وساستها كغيرهم من القادة، والساسة أكثرهم من هذا القبيل؛ لأنهم رأوا أن السياسي والقائد لا بد أن يأخذ ويعطي ويتنازل عن شيء ليستمسك بشيء، وإلا كان كالشجرة الصلبة أمام الريح العاصفة لا بد أن تنكسر لأنها لم تلِنْ”.

“وهذا لم يمنع أن يهب الله مصر كما يهب العالم رجالًا صلب عودهم واشتد خلقهم، فوهبوا أنفسهم للحق، لا شيء غير الحق. كان من هذا القبيل في عصرنا الحديث حسن باشا عاصم “.

…………………………….

” وجاء عاطف بركات يمثل هذا الطراز، ويتخذ من حسن عاصم أستاذًا؛ إذ كان يعاشره ويعجب به، كما كان يتخذ من «كنت» مثله الأعلى، وكثيرًا ما كان يحدِّثنا عنه ويستثير إعجابنا به في دقته ونظامه في حياته، وأنه كان إذا خرج من بيته ضبط الناس ساعاتهم على موعد خروجه، وهكذا.

” هذه أكبر ميزة لشخصيته: حبه للنظام الدقيق، وتحريه للعدل المطلق، والتمسك به مهما جلب عليه من متاعب” .

” تولى نظارة مدرسة القضاء الشرعي، وظل فيها أربعة عشر عامًا، فأشعَّ فيها روحه، وكان طلبتها وأساتذتها وزائروها يلمسون العدل ودقة النظام، ويتنفسون كل ذلك من جوها، فالمدرسة سائرة كالساعة، كل عضو يعرف عمله ويؤديه في وقته، وهم يرونه دائبًا لا يملُّ، فيخجلهم بجده ونشاطه، فيقلدونه في سيرته؛ فإذا جدَّ الجد تجلَّى عدله في أكبر مظاهره”.

“أراد الخديو عباس أن يعطي أحد المدرسين بالمدرسة درجة مالية أعلى من درجته، وأوفد إلى أعضاء مجلس إدارة المدرسة بذلك، فكلهم قبل نزولًا على إرادة الخديو ورغبة في المسالمة، ولكن عاطفًا  رأى أن غير هذا الأستاذ أحق منه، وأن في إعطائه ظلمًا على الآخرين، فأبى وأصرَّ على الإباء، ووضع نفسه والمدرسة في أزمة مع ناظر المعارف ومع السراي، فلم يعبأ بهذا كله.

“ومثَّل الدور نفسه مع سعد باشا  زغلول؛ إذ كان عاطف وكيل وزارة المعارف، ولسعد زعيم الأمة كل السيطرة على شئون البلاد ومصالح الحكومة، فطلب سعد منه أن يقبل ابن حمد باشا الباسل في مدرسة ثانوية، وكانت سنه تتجاوز السن القانونية بأشهر، فأبى عاطف وقال: إما أن نغير القانون ونقبله ونقبل كل أمثاله، وإما أن نرفض الجميع، وغضب سعد من ذلك أشد الغضب فلم يبالِ بذلك”.

“لا فرق عنده في تحقيق العدالة بين قريبه وغير قريبه، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، بل ولا بين من يحبه ومن يكرهه ؛ أمام عينيه قوانين العدالة وكفى، وهو ليس إلا قاضيًا يطبقها معصوب العينين عن كل اعتبار وكل عصبية، ومثل هذا الرجل ، وخاصة في مثل أممنا التي اعتادت الإفراط في المجاملة والمحسوبية ، لا يكون محبوبًا إلا من تلاميذه وخاصته، ولكنه يكون محترمًا من الجميع، وكذلك كان، فكم رُجي فرفض الرجاء، وكم طُلب إليه أن يغض طرفه عن القانون فأبى إلا القانون، وكم نُصح أن يرعى الكبراء؛ وخاصة في المسائل الصغيرة لتجاب مطالبه في المسائل الكبيرة، فلم يستسغ عقله هذه المساومة، فكان كل هذا مدعاة لمحاربته وكثرة اصطدامه.”

” لقد كان من ذلك حادثة طريفة، وهي أن ناظر المعارف كان أحمد حشمت باشا، وقد اقترح على مدرسة القضاء أن تعيِّن فلانًا مدرس خط، وكان فلان هذا من أحسن الناس خطًّا وأحسنهم خلقًا، ولكن عاطفًا أبى؛ لأن قانون المدرسة يجعل اقتراح التعيين من حق مجلس إدارة المدرسة، وليس لناظر المعارف حق إلا القبول أو الرفض، لا حق الترشيح ابتداء، وكانت أزمة طويلة، وعاطف يرى الحق بجانبه، وناظر المعارف يرى أنه مُسَّ في كرامته، ولقيت المدرسة من ذلك عنتًا واضطهادًا صبر له عاطف، وأخيرًا نزل ناظر المعارف عن رأيه، وأقرَّ من رشحته المدرسة لا من رشحه هو، وهكذا كانت حياته كلها صراعًا، فما استمسك أحد بالحق إلا أوذي، ولكنه في الوقت عينه أُجلَّ وأُكبِر.”

“وناحية أخرى كانت ترتكز عليها عظمته؛ ذلك أنه لم يكن واسع الاطلاع ولا بحاثة في الكتب، ولا عاكفًا على البحوث العلمية والأدبية، وإنما يقرأ ما يقرأ في رفق وهوادة، ولكنه مع ذلك نظيف العقل، لا يقبل عقله الفكرة إلا إذا كانت واضحة، ولا يعبِّر عنها إلا إذا كانت ناضجة محددة، وهو إلى ذلك حرُّ التفكير، لا يعبأ بالآراء الموروثة، ولا بالتقاليد المرعية في الأفكار، ثم هو طويل النفس في الجدل، قوي الحجة في المناظرة، لا يملُّ ولا يتعب، حتى قد يسلِّم له مجادله لا عن اقتناع، ولكن حبًّا في الراحة، وطلبًا للسلامة. ولوثوقه من نفسه في ذلك، وحبه في نشر أفكاره، اتخذ طريقة «سقراط» في تعليمه؛ فكان ينتهز كل فرصة لإثارة الموضوعات التي تنبعث من الظروف الحاضرة، في حجرة المدرسين، في مطعم الطلبة، في حلقاتهم، في الفسح، فيثير مسألة من المسائل ويبرهن عليها، ويتلقَّى الرد عليها من المدرسين أو الطلبة، وتكون المسألة حديث المدرسة في الفصول وأوقات الفسح، وقد تستمر أيامًا والعقول متيقظة باحثة فاحصة، فإذا انتهت أثير غيرها، وهكذا. فكان هذا مثار نشاط ذهني عجيب، ومدعاة لتحرير الأفكار، وتعويدًا على الاستقلال في التفكير، وعدم الخضوع للتقاليد، هذا في المجادلة العامة في المدرسة وحجر المدرسين والفصول، وكان له مع خاصته وفي بيته جدل في المسائل الدقيقة؛ سياسية كانت أو دينية، يتحرر فيها العقل من كل القيود إلا قيود الحجج والبراهين.”

“كانت أخلاقه هذه الصارمة القوية صالحة كل الصلاحية لإصلاح مدرسة عالية؛ ولذلك نجح فيها كل النجاح، وخلق جوًّا من العدل والنظام وحرية التفكير، يستنشق منه كل أستاذ وكل طالب على حسب استعداد رئته، وطبع كل من في المدرسة بطابع بيِّن الأثر، وكانت لهم في حياتهم العامة بعد روح مستمدة من روحه، وأخلاق هي صدى لأخلاقه. فلما تقلَّد منصب وكالة المعارف، اصطدم اصطدامًا عنيفًا بالرجاوات والدرجات والعلاوات، ولم تتحمَّل ميوعة الناس صلابته، ولا عذوبة مجاملاتهم مرارته، فلم ينجح فيها نجاحه في مدرسته.

“ولما انغمس في السياسة العامة للبلد، وبالحركات السياسية مع سعد وصحبه، لم تسعفه أخلاقه؛ لأن ألف باء السياسة المصانَعةُ والمجاملة والمهارة في المساومة، وهو لا يحسن شيئًا من ذلك؛ ولذلك كله كان نجاح أخيه فتح الله (باشا) بركات في هذا الباب أكثر من نجاحه هو، وكلٌّ ميسرٌ لِمَا خُلق له” .

قصيدة الشاعر على الجارم في رثاء عاطف بركات

 لا يصدُق على قصيدة من قصائد الشاعر على الجارم التي أنشدها في المناسبات أنها ألصق ما تكون بمناسبتها مثلما يصدُق هذا الوصف على قصيدته في رثاء عاطف بركات فالقصيدة الطويلة (68 بيتا) لا تكاد تبتعد عن عاطف بركات إلا لتعود إليه، وهي تخلو من المقدمات التقليدية الطويلة ، كما تخلو من الاستطرادات الطويلة المعهودة أيضاً، وتركز على صفات المرثي وحياته وتاريخه وإنجازاته على نحو يمكن اعتبارها بمثابة سيرة حقيقية لعاطف بركات.

 ومن المهم أن نقدم لتناولنا القصيدة بالإشارة إلى أن عاطف بركات كان بالنسبة للشاعر علي الجارم وجيله بل والجيل الذي سبق ذلك الجيل بمثابة المربي المثالي أو النموذجي فهو الذي أسّس مدرسة  عليا ورعاها وجعل لها ذكراً سامقا في عالم الفكر فلما تركها انتهى عهد المدرسة الذي واكب وفاة عاطف بركات نفسه بعد تركه لعمادتها.

من الجدير بالذكر أيضا أن أضيف هنا أن أكرر أن عاطف بركات باشا كان هو المرشح الطبيعي ليكون وزيراً للمعارف في وزارة الشعب الأولى التي شكلها سعد زغلول في يناير 1924 على نحو ما ذكرت في كتابي «كيف أصبحوا وزراء» لولا أن شقيقه الأكبر فتح الله بركات اختير لعضوية هذه الوزارة ، وهكذا خسرت المعارف عاطف بركات وإن عمل وكيلا لوزارة المعارف حيث كان الوكيل يقوم بدور لا يقل عن دور الوزير نفسه.

يبدأ الشاعر على الجارم  القصيدة بوصف بكاء العين على العقل الجليل الذي رحل فاهتز الوادي لرحيله، وهو على عادة الملتاعين يرى أن سهماً قد أصاب الفقيد ، وقضى على الآمال في مهدها ، وجعل الشعلة رماداً (البيت الخامس) وأغمد الحسام (البيت السادس) .

العَيْنُ عَبْرَى، والنُّفُوسُ صَوادِي / ماتَ الْحِجَا، وقَضَى جلَالُ النَّادِي
أرْجَاءَ ذَا الوادِي الخصِيبِ جنابُهُ / ماذَا أَصَابَكَ يَا رَجَاءَ الوَادِي؟
سَهْمٌ رَمَاك بهِ الحمامُ مُسَدَّدٌ / أوْدَى بأَيِّ رَويَّةٍ وسَدَادِ!
وقَضَى على الآمَال فِي أفْنَانِها / فَذَوَتْ ولم تُمْهَلُ لوَقْتِ حَصَادِ
وأصَابَ من قَبَس الزَّكانةِ شُعْلَةً / وَهَّاجَةً، فَغَدت فَتيتَ رَمَادِ
وطَوَى حُسَامًا مِنْك في جَفْن الثَّرَى / قَدْ كَانَ يُسْتَعْصَى عَلَى الأَغْمَادِ
ثم يتحدث الشاعر على الجارم عن حكمة الحياة والموت بدءاً من البيت السابع ويتساءل بدءاً من البيت العاشر عن الدنيا التي حيّرت المعري، ويصوغ المفارقة بين الحزن والفرح هناك، وضرورة هذا الحزن لذاك الفرح ، ولا أدري ما الذي دفعه للاستشهاد على هذا المعنى بروايته أو إشارته السريعة لقصة استشهاد الحسين التي مثلت عيدا ليزيد وآل زياد في البيت الرابع عشر الذي لا أراه يرقى إلى حصافة الشاعر على الجارم .

صُحُفُ الحَياةِ، وأَنْت أَصْدَقُ قارئٍ / لسُطُورِها، تُطوى إلى ميعَادِ
والوَرْدُ يَزْهُو ناضِرًا فَوْقَ الرُّبَا / ويَعُودُ حِينًا وهو شَوْكُ قَتَادِ
وَالمَاءُ يَجْتَذِبُ النُّفُوسَ نَمِيرُه / وَلَقَدْ يَكُون الماءُ غُصَّةَ صَادِي
مَا هَذِهِ الدُّنْيَا؟ أمَا مِنْ نِعْمةٍ / فيها لغَيْرِ تشَتُّتٍ ونَفَادِ!
قَدْ حَيَّرَتْ شَيْخَ المَعَرَّةِ حِقْبَةً / فِي نَوْحِ بَاكٍ أوْ تَرَنُّم شَادِي
تعَبُ الحَياةِ يَجيءُ من لَذَّاتِها / ولذِيذُهَا يُجْنَى مِنَ الإجْهاد
يَطْوِي بِسَاطَ الْعُرْسِ فيها مأتمٌ / في إثره عِيدٌ من الأعيَادِ
قَدْ كَانَ فِي رُزْء الحسَيْن بكَرْبَلَا / عيدُ اليزِيد وعيدُ آل زِياد
يبدأ الشاعر على الجارم المقطع الثاني من قصيدته بتساؤله المباشر في البيت الخامس عشر عن موت عاطف بركات بينما الأمل منتظر منه، وعن موته في الميدان، وعن موته مع اقتراب النصر ثم يبدأ في الحديث الأسيف على ما تفتقده أرض الكنانة بوفاة عاطف بركات، فقد كان ماؤه حياة، وعمره ذخيرة، وكان كالمطر ، وكانت حياته حافلة بالمجد على الرغم من أنه لم يُعمّر على نحو ما اشتهى محبوه.

أيَمُوتُ عاطفُ، والكنَانةُ تَرْتَجِي / وَثَباتِه، واليوْمُ يَوْمُ جلَادِ؟
أيمُوتُ في المَيْدَانِ، لم يُغْمَدْ له / سَيْفٌ، ولم يُخْلَعْ نياط نِجادِ؟
أَيَمُوتُ، والنَّصْرُ المُبِينُ مُلَوِّحٌ / بِلوَائِه لطَلَائِع الأجنَادِ؟
ويَغِيضُ ماءٌ كانَ أيْسَرُ قَطْرةٍ / منهُ حَيَاةَ خَلَائِقٍ وبِلادِ؟
عُمْرٌ إذَا قَلَّتْ سِنُوه، فإنَّما / آثارُهُنَّ كثِيرَةُ التَّعْدَادِ
كَالعِطْرِ تَجْمَعُ قَطْرةٌ من مائهِ / زَهْرًا، يَنُوءُ بغُصْنِهِ المَيَّاد
كَمْ مِنْ فَتيٍّ في التُّرابِ، وخَلْفَهُ / ذِكْرٌ يُزَاحِمُ مَنكِبَ الآبَادِ!
ومُعَمَّرٍ عَبَرَ الوُجودَ، فَمَا رَنَا / طَرْفٌ إليهِ ولا بَكَى لبعَادِ
عُمْرُ الرِّجالِ يُقَاسُ بالمَجْدِ الَّذي / شادُوه، لا بتقَادُمِ المِيلادِ
وفي المقطع الثالث (بدءاً من البيت الرابع والعشرين) يبدأ الشاعر على الجارم  في تعزية مجتمع  المعارف، مواصلاً في الوقت نفسه الحديث عن مناقب عاطف بركات ومعاضدته للعلم والأخلاق معاً، وعن كفاحه، وعن مغالبته للمرض وللزمان معاً، وعن تصميمه الذي لم يتأثر بالأيام ، وعن عمله من أجل غاياته ، وعن مواصلته العمل ليلاً نهاراً واهبا الحياة لقومه ، على الرغم من نُصح الطبيب

عَزِّ (المعارِف) مُطْرِقًا في عَاطِفٍ / زَيْنِ الفِناء وسَيِّدِ الأنْدَادِ
للعِلْم والأخْلَاقِ كانَ مُعَاضِدًا / فطَوَى الْحَياةَ وفتَّ في الأعْضَادِ
ما زَال يَكْدَحُ، والْخُطُوبُ بِمَرْصَدٍ / والدَّاءُ يَطْغَى، والزَّمَانُ يُعَادِي
لَمْ تُثنِهِ الآلام عن غَاياتِه / أو تَلْوِه الأسْقَامُ دُونَ مُرَادِ
فاللَّيْلُ مَوْصُولٌ بيَوْمٍ حافلٍ / واليومُ مَعقُودٌ بليْل سُهَادِ
وكأنَّما نُصْحُ الطبيبِ بسَمْعِه / هَذَرُ الوُشَاةِ، وزُفْرَةُ الْحُسَّادِ
وَهَبَ الحياَة كريمةً لبِلادِه / ومَضَى إلى الأخْرى صَرِيعَ جِهاد
ويختم الشاعر على الجارم هذا المقطع ببيت من أبيات الحكمة الجارمية الجميلة و هو البيت الحادي والثلاثون الذي يقول فيه إنك إذا بذلت لمصر كلّ شيء إلا الحياة، فما أنت بجواد.

وإذَا بذَلتَ لمِصرَ كُلَّ عَزِيزةٍ / إلَّا الحيَاةَ، فأَنتَ غيرُ جَواد
في المقطع الرابع من القصيدة بدءاً من البيت الثاني والثلاثين يتحدث الشاعر على الجارم  بضمير المشاهد أو الراوي فيصف جنازة عاطف بركات وقد حملوا الوديعة الخيّرة فيها، وقد سارّ من حول هذه الوديعة الغالية  جموع من علية القوم ثم يصف سير الجنازة في بيت من أربعة أجزاء متساوية من الأبيات التي كان الشاعر على الجارم  يهفو إليها من حين لآخر فيقول : إن الصبر ناء ، والرؤوس خاشعة ، والدمع جار ، والقلوب صوادي وهذه هي المرة الثانية في هذه القصيدة التي يستخدم فيها صفة الصوادي بعدما استخدمها في البيت الأول، وهناك وصف بها النفوس وهنا في البيت الرابع والثلاثين يصف بها القلوب، وهو ما يؤكد ما نذهب إليه من أن عقلية المؤمنين الواعين بالحياة العقلية والعصبية لا تفصل بين النفوس والقلوب وإنما قد تنظر إليهما على أنهما شيء واحد.

حَمَلُوا على الأعْوَادِ خيرَ وديعةٍ / (أعلمتَ مَنْ حَمَلوا على الأعْوَاد؟)
في ركْبِه زُمَرُ السَّموَاتِ العُلَا / تَحْدُو مَطِيَّتَهُ لِخَيْرِ مَعَاد
والصبرُ ناءٍ، والرُّءوسُ خواشِعٌ / والدَّمعُ جارٍ، والقُلوبُ صَوَادِي
حَمَلوا على النَّعْشِ الكريمِ، سُلَالَةَ الـ / ـحَسَبِ الكَريمِ، وصَفوةَ الأَمْجاد
وتحمَّلوهُ ليَدْفِنوا تَحْتَ الثَّرَى / شَمَمَ الأُبَاةِ، وصَوْلَةَ الآسَاد
حَفَّ الشبابُ به، وفي عَبَرَاتهم / كَمَدُ الجنودِ لمصْرَعِ القُوَّادِ
ويعود الشاعر على الجارم  في المقطع الخامس ليخاطب عاطف بركات بعد أن كان يصف جنازته وهو يخاطبه بصفاته التي استنبطها بعد تأمل في أفعاله فهو يراه صاحب همة تتوجه إلى الأمل البعيد، وهو في الوقت ذاته صاحب عقيدة راسخة، وهو صاحب حق لا يُجامل فيه مهما امتدحه طلاب الحاجات، وهو صاحب العزيمة التي لم تتأثر بأي مؤثر رغم تغيّر الظروف، وهي عزيمة حادة مسنونة قادرة على الإنجاز، كما أنها ، وهذا هو الأهم ، عزيمة واثقة بالخالق القدير ، وهو يشير إشارة سريعة إلى أن عاطف بركات كان من الذين نفوا (كما نعرف مع الزعيم سعد زغلول باشا ) إلى سيشيل ، لكنه كان هصوراً لم تؤثر فيه قيود النفي ولا عسف الإنجليز.

يا رَامِيَ الأملِ الْبَعِيدِ بِهمَّةٍ / شمَّاءَ تُدْرك غايةَ الأبْعاد
وعَقيدةٍ لو صَوَّرَتْ بمُماثلٍ / كانت تكونُ رَصَانَةَ الأطْواد
لم يَزْهُها ضافي المديحِ، ولم تكن / في الحق ترهبُ صولةَ النُقَّاد
وعزيمةٍ لا الزجرُ نهنه هَمَّها / يومًا ولا فُلَّتْ، من الإيعاد
كادت تدُور مع الكواكب دَوْرَها / بالنَّحس آونَةً وبالإِسْعاد
كانتْ أحزَّ من المُدَى، وأَحدَّ مِنْ / غَرْب الظُّبَي يُسلَلْنَ يومَ طِرَاد
وَثِقتْ بخَالِقها القدِيرِ فشمَّرتْ / مَحمودةَ الإصْدَارِ والإيرَاد
«سِيشيلُ» منه رَأت هَصورًا يَزْدَرِي / ألمَ الإسَارِ، وقَسْوَةَ الأصْفَاد
ونرى الشاعر على الجارم  بثقافته المستمدة من  رحلاته البحرية يستحضر صورة عاطف بركات في المنفى ينظر إلى المحيط (الهندي) نظرة الصقر من دون أن يتأثر بقسوة الطبيعة ، ولا قسوة الظروف، وهو يختم هذا المقطع بمدح سعد زغلول باشا الذي هو خال عاطف بركات، بل إنه يجعل من هذه الصلة سبباً يفك شفرة التعجب والإعجاب بمدى قوة عاطف بركات وقوة شخصيته.

لَهْفِى عَلَيهِ، والدِّيارُ بَعِيدةٌ / وخَيالُ مِصْرَ مَرَاوِحٌ ومُغادِي
مُتَوَثِّبًا نحوَ المُحِيط كأنَّه / صَقْرُ الفلَاةِ بكِفَّة الصَّياد
ما دكَّه عَصْفُ الْخُطُوبِ ولا وَنَى / لزَعازع الإبْراقِ والإرْعاد
لا تَعْجَبوا، مَنْ كان سعدٌ خالَهُ / ألقَتْ له الأخلاقُ كلَّ قِيَاد
سَعْدُ الذي غَرَسَ المُهَيْمنُ حُبَّه / فِي كلِّ جارِحةٍ وكلِّ فُؤَاد
في المقطع السادس يبدأ الشاعر على الجارم  حديثا أقرب إلى  الهدوء النفسي متخذا مقعد الراوي فيتحدث عن وفاة عاطف بركات ( ملقبا إياه بمحيي القضاء )على أنها وفاة مبكرة، وأن المنون وثبت عليه ، وكذلك الزمان ، لكنه سرعان ما يعود إلى مخاطبة عاطف بركات في ثالث أبيات هذا المقطع متحدثاً عن أمجاده أو عن أمجد أمجاده وهو تأسيسه لمدرسة القضاء الشرعي وهو يسميها بلغة الشعر داراً للقضاء ، وسرعان ما يضعها في بيت من الشعر و يتحدث عنها بأنها أصبحت عماداً للدين والأخلاق ، وهو يقرر ما نكاد نحن وأسلافنا نشاركه فيه من أن هذا الإنجاز الذي أنجزه عاطف بركات في مدرسة القضاء الشرعي يكفيه فخراً، لكن الشاعر على الجارم  ينسب هذا التقدير إلى يوم الحساب أيضا (في البيت الرابع والخمسين)

مُحْيِي القَضَاء رَمَاه فِي رَيَعَانِهِ / سَهْمُ القضاء، فما له من فادي!
وثبتْ عَليه مِن المَنُونِ غواِئٌل / وعَدَت عليه من الزَّمان عَوَادِي
شيَّدتَ دارًا لِلقَضاءِ فأصْبَحَتْ / للدِّينِ والأخْلاقِ خيرَ عِماد
لو لم تجِئْ يومَ الحِسابِ بِغَيْرِها / لَسَمَوْتَ فوق مَنازِلِ العُبّادِ
ثم يتحدث الشاعر على الجارم  بذكاء ومهنية تربوية عن الأثر الحقيقي لعاطف بركات باشا في تلاميذه فيقول إن هذا الرجل الذي يخاطبه بشعره  بث في الشيوخ الذين خرّجهم هُدى النبوة، والتمسك بالأخلاق، مع التأكيد على سماحة الدين، ومقصد الخير.

وبَثثتَ رُوحَكَ في الشّيوخِ، فكلُّهم / داعٍ إلى نُور النُّبوَّةِ هادِي
وَبنَيْتَ بالأخْلاقِ منهمْ دولةً / بَلَغتْ بِحَوْلِك أبْعَدَ الآمادِ
الدينُ سَمْحٌ، إنْ سَلَكْتَ سَبِيلَه / لِلْخَيْرِ، لا للشَّرِّ والإفْسَادِ
فَلَكَمْ رَأَينا في المَعابد أشْعَبًا / للختْل يَلْبَسُ بُرْدَةَ الزُّهَاد
ويواصل الشاعر على الجارم  هذا الحديث الدقيق عن شمائل عاطف بركات في المقطع الأخير من قصيدته فيُشير إلى أن الأقلام فزعت لوفاة عاطف بركات باشا ، وكذلك المنابر والأشعار.. وكأنه بهذا استغرق وصف كل ردود الفعل الثقافية على فقدان ذلك العلم العظيم، ثم هو يتساءل من أين يأتي بديل لعاطف بركات باشا في ضوئه ووجهه وخبرته ونور يقينه، وزاده الإيماني والفكري.

فَزِعت لك الأقْلَامُ فوقَ طُروسِها / ومن المِدَادِ لَبِسْنَ ثوْبَ حِداد
وتكادُ تلْتَهبُ المَنَابرُ حَسْرةً / لمَّا رَحَلْتَ، على خَطيب إياد
والشِّعْرُ أضحتْ هاطلاتُ دُموعِهِ / بَحْرًا، فنَاح عليكَ في الإنشاد
مَنْ لي، وظِلُّ الموت داجٍ بَيْننا / بضِياء ذاك الكَوْكبِ الوقّاد!
مَنْ لي بِذاكَ الوجهِ، بَيْنَ غُضُونِهِ / أَسْطارُ أسْرارِ الْحَياةِ بوادِي!
ثم يخاطب الشاعر على الجارم  عاطف بركات باشا معتمداً على المعنى القرآني الذي يصف الموت بأنه اليقين فيقول له جاءك اليقين يا من كنت تطلب نور اليقين، وها أنت تمضي إلى أخراك بزاد وافر من الأعمال الصالحة، تستريح من المرض وتستريح أيضا لارتداء ثوب الخلود.

يا طالبًا نُورَ اليَقينِ حَيَاتَهُ / جاءَ اليقينُ، فسرْ بأوْفَرِ زَاد
وامْلأْ جُفونَكَ بالكَرَى فِي غِبْطةٍ / قد كنتَ أَحوجَ ساهدٍ لرُقاد
واخلَعْ ثيابَ الداء عَزَّ دواؤه / والْبَسْ بِعَدْنٍ أَنْفسَ الأبْراد
لكن الحزن مع هذا يعود ليُغالب الشاعر على الجارم فيختم قصيدته ببيتين مؤثرين يستثيران الدموع وذلك على غير عادته( التي عرفت عنه  بعد ذلك ) في أن يختم قصائده بالرضا والتسليم ، أما هنا فإنه يتحدث عن دم الجفون وحرقة الأكباد.

واذْهبْ كما ذَهب الشباب مُشَيِّعًا / بِدم الجُفونِ وحُرْقة الأكْباد
سَحَتْ عليكَ مع الْجَنُوب رَوَائِحٌ / وَهَمَتْ عليك مع الشمالِ غوادِي

وفاته

توفي محمد عاطف بركات باشا في ٠٣ يوليو سنة ٤٢٩١ في أثناء عهد وزارة الشعب برياسة خاله.  

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها