صرخةٌ من تحتِ الركام (٢)

طائرات حربية للاحتلال الإسرائيلي تشن غارات على مناطق متفرقة من قطاع غزة

أصواتُ بكاءٍ أخذ يترددُ صداها في أذني، رائحة الدماء تملأ المكان، أيُّ جحيمٍ دنيويٍ أيُّ قاضٍ ذاك الذي يحكم بالإعدامِ فورًا على هذه البلاد وعلى أهلها، دونَ الاستماع لها.

“في حدا هين يا جماعة، في حدا بصرِّخ، خالد هين تعالوا نْدوِّر”، صريخُ الرجل جعل من ابتسامتي تأخذ مجراها من بين دموعي، وأخذتُ أهدِّئ من روعِ نفسي “سأنجو، سأنجو”.
ثم ما لبثْتُ إلا و شعرتُ بشعاع ضوءٍ يخترق عينيّ، صحيح أنّ الساعة تجاوزت الثانية عشرَ ة ليلا، أي أنّه لا ضوء يستحق الذكر.

ولكنّ ضوء الليل شمسٌ مقارنةً بالضوء تحتَ الركامِ، وها قد بدأ بصيصُ الأمل بالإقتراب من تحقيقه.
أخرجوني وأنا أوشكُ على الوقوعِ مغمًى عليّ، ولكنّ الصاروخ الذي سوّى منزلاً آخرَ في حيّنا، والذي صادف وقته وقت خروجي، كانَ كمنبهٍ لحظيٍّ أيقظَ كلَ حواسي التي فقدتها منذ أن بدأوا بإخراجي من تحتِ الركامِ.

نقلوني بسرعة إلى سيارةِ الإسعاف، وهنا بدأت خلايا جسدي تستسلمُ للنوم على تهويدة صراخ أحد المسعفين: “قلنا بدناش تجمعات يا شباب، شايفين الوضع كيف، ابعدوا خلونا نشوف شغلنا” ونمت.

غزة – فلسطين – العدوان على غزة 2019

 

كانَ لحال المستشفى أثرٌ  على نفسي، استيقظتُ كمن لبثَ سنين غارقًا في كوابيسه، تشتت نظري، جرحى كُثر في غرفة لا تتسعُ إلا لنفرين إن كانتْ تتسعُ أصلاً.

أصواتُ بكاءٍ أخذ يترددُ صداها في أذني، رائحة الدماء تملأ المكان، أيُّ جحيمٍ دنيويٍ هذا الذي نمرُّ به؟ أيُّ قاضٍ ذاك الذي يحكم بالإعدامِ فورًا على هذه البلاد وعلى أهلها، دونَ الاستماعِ لها ولدلائل براءتها؟

ثمّ أينَ أهلي من كلِّ هذا الأمر؟ ولوهلةٍ توقف الزمن عند هذه النقطة، بدأ جسمي بالانتفاض رافضًا مكوثي في السرير البالي التابع للمشفى، صرختُ أطالبُ بأحدٍ يجيبني أو يأتي ويفسرُ لي وضعي، والحقيقة لا طبيبَ متفرغٌ لتساؤلاتي، ولم أكن في وضعٍ يسمحُ لي بالانتظارِ أصلاً، فككتُ إبرةً كانت متصلةً بكفي الأيمن و لا أعلم ما تحتويه، وخرجتُ من صداع النحيب الذي غلَّف طبلتي أذنيّ وانطلقت من الغرفة أبحثُ عن الباقي منِّي، صراحة إلى الآن لا أعلم أيّ اتجاهٍ أسلك، ولا أعلمُ إن كانَ الاتجاه الذي اتجهت له قدماي هو الصحيح، ولكنني مضيت.

أصواتُ بكاءٍ أخذ يترددُ صداها في أذني، رائحة الدماء تملأ المكان، أيُّ جحيمٍ دنيويٍ هذا الذي نمرُّ به؟ أيُّ قاضٍ ذاك الذي يحكم بالإعدامِ فورًا على هذه البلاد وعلى أهلها، دونَ الاستماعِ لها ولدلائل براءتها؟

يا لَكلِّ هذه المأساة التي تحفُّنا، إحدى النساء تلطم خديها حزنًا على ما فقدتْ من أبنائها، وأخرى تمسك بيديْ طبيبٍ متحدثةً معه قائلة: “إنتَ أملي بعد الله يا دكتور، أمانة رجِّعلي ابني”.

أغلقتُ أذنيّ بيدي وأخذتُ أجري، وما إنْ وصلتُ نهاية الممر الذي سأخوضُ بعده تخييرًا ما بين الاتجاهات التالية التي سأسلكها، حتى قفز في وجهي شابٌ يحملُ مصابًا آخر، هل هذا ما وصلنا إليه؟ رأيتُ انتهاء أسرَّة المشفى، ولكن هل انتهت حمّالات المرضى وانتهى عمل الأطباء إلى داخل جدران المشفى فقط؟.

واهتدت قدماي إلى طبيبٍ كان يجلسُ على أرضيةِ المشفى واضعًا يديه على رأسه بينَ قدميه وأكادُ أسمعُ نحيبه: “يا رب لطفك، يا رب لطفك”، جزءٌ مني رفضَ أنْ أزيدَ همّه وأسأله عن أهلي، والآخر حثَّني على المضيِّ قدمًا نحوه، وكان الثاني مسيطرًا على تفكيري، سرتُ إليه وأخذت دموعي تزداد خوفًا من الإجابة.

وأخذتُ أسأله بأسلوبٍ طفولي لم أسيطر على نبراته أو لم أركِّز في كيفية خروجه: “دكتور أهلي، دكتور صحيت مش عارفة وينهم، دلني عليهم، صحيت ما لقيتهم، دكت…”، قاطعني: “اصبري شوي، هلقيت بنلاقيهم، اصبري بس….”، كانتْ عينا الطبيب تتحركان متوترين، جزءٌ منهما يريدُني أن أصدّق، والآخر ينفي ما قاله، وكان لوقع الآخر محلّاً من واقعي.

لا أعلمُ كيفَ وصلتُ إليهم، وكيفَ كنتُ متجلدةً بالصبرِ عندما وقع نظري عليهم، كلُّ ما كانَ يجول في خاطري أنني فقدتُ جزءًا مني، لم يكنْ فقدانهم سهلاً، كما لم يكن ما بقيَ بعدهم سهلاً، والمبكي أنني لستُ أوّلَ ولا آخرَ من يحدثُ معها هذا، والغريبُ بعدَ هذا كلَّه أنّ حبَّ البلادِ ما زالَ شارعًا في فؤادي، ثمَّ إنّ لحبِّها ضريبة، وها نحنُ ندفعها، ولن نكلَّ عن دفعها.

صرخةٌ من تحتِ الركام (١)

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها