صرخةٌ من تحتِ الركام (١)

مجرد لحظاتٍ فقط جعلت أعوامي الثمانية عشرتتقلبُ أمامَ ناظري، بدايةً من صرختي الأولى التي لا أذكرها؛ التي هُيِّئت لي فقط في هذه اللحظات..

بدأت تتلقفني هواجس الثمانية عشر عامًا التي عشتها، هل كانَ عليّ معايشةُ هذا كلّه؟
 هل هذه أقصى نقطة قد نصل إليها في مجال الترويح عن مرارة ما نسايرُ أيّامنا به؟
 هل باتت البلادُ في ظمأٍ دائمٍ لدمائنا؟ والمشكلة أنها لا تكتفي بالدماءِ منّا كمقوِّمٍ يفِي بجميع المقوّمات التي تجعلها مستمرةً على قيدنا.
 بل تعتبرُها عربونًا مقدمًا لحينِ وصول المتبقي منا مكبلي الأيدي، معصوبي الأعين لبقعة ضئيلة تكاد تبتلعُ أجسادنا.
 والذي لا نقاش فيه هو أنّ هذه البقعة تقفُ مكابرةً مداهمة أجسادنا بقضبانها حتى ولو لم يتسع جوفها لحجمِ أجسادنا.
 المهمُّ أنّها تشلُّ تحركاتنا، وأفكارنا أيضًا، ولا مجال للفرار أثناء تلذذها بما  تجيده بامتياز.
 والغريب في كلِّ ذلك أنَّ هذه البلاد تستحق، ولا اعتراضَ يُطرح في ساحتها على ما تستنزفه من طاقاتٍ تُثقلُ مخلَّفاتُها كاهلَنا، والمعترضُ بالإجماعِ خائن..
مجرد لحظاتٍ فقط جعلت أعوامي الثمانية عشر تتقلبُ أمامَ ناظري، بدايةً من صرختي الأولى التي لا أذكرها؛ التي هُيِّئت لي فقط في هذه اللحظات.
 إلى انتكاستي في مكاني هذا، لا أعلمُ إن كانت خيالات الأصوات التي تصلُ إلى سمعي موجودة بالفعل، أم أنّ أذني بدأت تنسجُ ما تأملُ أن يكون، وكانت هذه اللحظات مؤنستي رغم بداية اختناقي.

مجرد لحظاتٍ فقط جعلت أعوامي الثمانية عشر تتقلبُ أمامَ ناظري، بدايةً من صرختي الأولى التي لا أذكرها؛ التي هُيِّئت لي فقط في هذه اللحظات.

وبما أنني لا أعلم إن كنتُ على قيدِ الحياة أم أنَّني في طريقي للجحيم؛  الذي قدّرْته لنفسي بسبب الاختناق الذي يلفّني، عدت أسائلُ ذاتي بما أنه لا أحدَ بجانبي أسأله: هل هذا النعيم الذي أخبرونا بأننا سنشعرُ به ما إن تمتصُ البلادُ دماءنا؟
 أيُّ نعيمٍ هذا وأنا أشعرُ أنّ مخزوني من الدماء على وشك النفاد، ولا نعيمَ يحفّني إلى الآن!! أم أنّ البلاد لم تستسغ مرّ دمائي فلفظتني وتركتني أعايش الجحيم هنا؟ والثانية بحدِّ ذاتها مرعبة أكثر من وَحشة المكان الذي يحاصرني!
أنْ تلفظَك البلادُ يعني أن تنزوي لحينِ موافاة المنيةِ لكَ إلى أحدِ الأزقة المهجورة بملابسك التي ستشعركَ بالعريِّ الدائم، رغم أنها قد تكون مغطيَةً لجسدكَ من بداية رأسكَ إلى أخمصِ قدميك.
 ولكنّها لعنة البلادِ التي تلقيها عليك وقتها فتذرأ عندكَ السترَ كبدايةٍ للعقاب، فيعرفكَ الناسُ تلقائيًا بالخائن، وكأنها وُشمت على جبينك!،
 أنْ تلفظَكَ البلادُ يعني أنّ يجافيكَ النومُ مخافةَ أنْ تتسلط عليكَ تهويدة النوم الأبدي الممهدِ للجحيم.
 أن تلفظك البلادُ يعني أن يُنفى اسمك من سجلِّ مواليد هذه البلاد ليومِ ميلادك.
 وهنا بدأت تراودني الظنون، و بدأ الشكُّ يأخذُ حيّزًا من تفكيري، فكانَت وطأة الاختناق التي استوطنت رئتيّ، أخفُّ إيلامًا من القنبلة الموقوتة التي بدأت تسيطر على تفكيري.

بدأتُ أغمضُ عينيّ علَّني أغيبُ عن الوعي، أو يا مرحبًا بالموتِ حتى، المهمُّ أنْ أُسكتَ المعركة الدائرةَ في رأسي الآن، ولكنّ الأمرَ أصعبُ مما تخيلت، ويا بُعدَ الواقع عن أحلامنا التي نبدأ بنسجها منذ اللفظ الأول لأولى حروفنا إلى حينِ وقوفنا أمامَ أنفسنا عاجزين عن قولِ ما يأمله القلب إلى العقل، وما ينسجه العقل إلى اللسان، كلّها مسلّمات تأبى الخنوع لما قدْ يحققُ لنا حياةً مضمونها ما نرسمه نحن.
رجعت الأصوات تعلو من حولي، حاولت التدقيق فيها علّني أعرف لمن تعود، أو حتى ماذا تحملُ؟ ولكن لا نذير يفسِّر لي ماهيَّتها، ومع ذلك بدأ أملٌ جديدٌ يولدُ داخلي، أنّني سأخرجُ من تحتِ الركامِ الذي ندفعُ ضريبته أحياءً كنَّا أم نصارعُ الموت.

“بدأنا تجمّعات يا شباب، هينا بنحاول نطول إللي بنقدر عليه، والله يسلِّم”، هذه الجملة الوحيدة التي أشفقَ عليَّ بها عقلي وترجمها.
بدأتُ أشعرُ بتنفسي يتسارعُ مع نبضاتِ قلبي، صوتي كانه قد اختفى منذ الوهلة الأولى التي شعرتُ فيها بجسدي يتهاوى مع ركام البيتِ الذي أثقل صدري.
 ولكنني لم أيأس فجعلت أصرخُ بنحيبٍ أملةً أن يكونَ النحيبُ شفيعًا أمامَ صوتي ليخرج: “أنا هون، حدا سامعني؟ أنا هون..”، لا رد أتلقاه إلى الآن، بدأتُ أبكي كما الأطفال، والذي أثار دهشتي أثناء وصلة بكائي أنني منذ حططتُ على الأرض، ومنذ حطَ الركام فوقي لم أبكِ!، لعلّها بشارةُ خير!، أخذتُ أعيدُ الصراخ، والفرق بين الصراخ الأول والثاني، أنّ الثاني بدأ يستنزف كلّ قواي.
“في حدا هين يا جماعة، في حدا بصرِّخ، خالد هين تعالوا نْدوِّر”،
….

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها