شباب غزة.. الفرار من الموت إلى الموت!

بينما كنت أتصفح خبرًا ثقيلًا حزينًا حول غرق مركب مطاطي خفيف خرج من حدود تركيا عبر بحر إيجة أملاً في الوصول الى الجزر اليونانية، مر أمام ناظري شريط صور وأسماء الضحايا في هذه الموجة من الهجرة غير النظامية التي بدأت مع بداية الحصار والانقسام وتفاقمت بعد عدوان عام 2014 بغرق سفينة متهالكة خرجت من مصر إلى إيطاليا لكنها أبداً لم تصل.

يشترك الضحايا في فئتهم العمرية الشابة، وهي الفئة التي ينتهي المطاف بثلاثة أرباعها في مصاف البطالة في غزة، رغم تخرّج أكثر من 30 ألفًا منهم سنويا من جامعات القطاع، وبعيدا عن هذا البؤس فهم يشتركون أيضًا بابتساماتهم الجميلة واقتباسات مفعمة بالأمل تركوها على جدران صفحاتهم عبر وسائل التواصل المختلفة، وكأنها احتجاج راق منهم على حياة فارقوها قبل أن يعيشوها كما يليق بهم!
 
أولى القصص التي نقلتُها آنذاك عبر الجزيرة مباشر كانت قصة “رؤى” السيدة العشرينية الحامل في شهرها السابع، انقطعت أخبارها بعد أن ركبت سفينة متهالكة برفقة زوجها وطفلتهما وعشرات الغزيين الآخرين، لا أنسى لهفة أبيها وأمها وهم يحلمون ولو بدفن جثمانها فقط! وهي التي كانت مهندسة متفوقة تملك ابتسامة وادعة تشبه الحياة التي كانت تتمناها ولم تنلها، كل هذا لا يهم المُهَرّب الذي لا يرى فيهم أرواحا تعلقت بوعوده بل آلافًا من الدولارات عليه أن يحتال ليبتلعها ثم فليبتلع المجهول والبحر ضحاياه فهذا ليس من شأنه بعد أن تقاضى عن كل روح “ثمناً”.
 
توالت القصص، وواحدة تتفوق على سابقتها بما تحمله من وجع وحسرة تنوء بها الجبال، ورغم اندفاع ابناء غزة الخَطِر إلى ركوب البحر الموسوم بالغدر فإنه لا لوم عليهم وهم يواجهون أسوأ ركود اقتصادي وحصار تعرفه غزة، ولكنها دعوة لهم لاستقراء الواقع بدقة وروية، فأوربا التي يموت على حدودها مئات كل عام ما عادت جنة المضطهدين على الأرض، وروايات الواصلين إلى هناك ماهي إلا قصص يدارون بها خيبة كبيرة حظوا بها، فلا قصور تنتظر أحد ولا رواتب توزع على القادمين الجدد ولا حتى موافقات على طلبات اللجوء المكدسة في أدراج الحكومات هناك، فالمنطقة العربية المشتعلة تدفع بموجات لجوء عظيمة ومتواصلة، جعلت الفلسطيني واحدًا من طلاب لجوء متعددة جنسياتهم ومآسيهم.
 
لا يخفى على عاقل قتامة المشهد بعد الحصار الإسرائيلي الذي تلا تولي حماس الحكم عام 2007، وما زاد الطين بلة انقسام تفشل أطرافه حتى اليوم في إنهائه رغمًا عن كل ما يخلقه من أزمات في حياة المحاصرين.
لكن الحل العاجل في يد الجهات المسؤولة بتدارس هذه الكارثة التي تخطف أرواح ابنائنا وتقصم ظهور ذويهم ووطنهم، إذ لا يرجى خير من مجتمع يفرط بعماده، 
وإليهم: آمل أن يجدوا أفقًا بعيدا عن الموت المجاني على حدود أوربا البحرية، فلم تتكبد الأمهات عناء التربية ولم يبذلن “في كل شبر نذر” ليقدمن أبناءهن وجبة لأسماك المتوسط، ولا يمكن الاحتجاج بواقع انعدام الأفق في غزة، فأرض الله واسعة وفيها معايش وآفاق شرقا وغربا تغني عن الفرار من الموت إلى موت أقبح منه.
 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها