سنروي القصص لنعيش

البيت حافز لتنمية موهبة المطالعة. وفي العادة، يتعلم الأطفال عادة القراءة من تقليد آبائهم.

ما أجمل البيوت التي تجتمع فيها الأسرة بكلّ أجيالها، انتبهوا إلى تلك النعمة، ضعوا الهواتف جانبا، وأدخلوا السرور على أفئدة الكبار والصغار، حدّثوهم ليعيشوا ويَسْعَدُوا!

1
“القصص تبقينا أحياء، طالما أنا أروي قصّة فأنا حيّ، إذا توقّفتُ عن رواية القصص فسأموت، كانت هذه مشكلة شهرزاد، إمّا أن تستمرّ في رواية الحكايات أو أن تموت في الصباح التالي”. بتلك الكلمات البسيطة، علّق الناقد المغربيّ الشهير عبد الفتّاح كيليطو على نجاة شهرزاد من الموت بفضل الحكايات التي روتها على الملك شهريار في كتاب ألف ليلة وليلة.

علينا أن نفعل نفس الشيء، حتّى لا نموت نحن أيضا، وتتحوّل بيوتنا إلى قبور صامتة. الأسرة الحيّة هي التي تشارك قصصها الصغيرة المتجدّدة.. فالكلّ مطالب بأن يحكي بعض الأحداث التي طبعت يومه.. غياب القصص يدلّ غالبا على مشاكل عائليّة وخلافات..

تصمت الزوجة أو الزوج، فيخيّم الحزن والقلق، ويفهم الأبناء بسرعة أنّ الوضع متأزّم.. ومع أوّل جملة يهمس بها أحدُهما ويتبعها جواب وابتسامة من الطرف الآخر، تنبسط الوجوه من جديد، وتعود الحياة إلى ضجّتها…

ولكنْ تأمّلوا ما يجري في بيوتنا اليوم مع انتشار الهواتف الذكيّة.. تحوّلنا إلى عبيد لتلك الأجهزة، ورضينا بأغلالها التي كبّلت الأيادي والعقول وكمّمت الأفواه وأرهقت القلوب… تُهنا في حلقة مفرغة، نُقلّب الصفحات على منصّات التواصل الاجتماعيّ، حتّى سكتنا عن الكلام المباح وغرقنا في صمت مخيف يثير السؤال الأليم: هل في بيوتنا اليوم أحياء أم أموات؟

“القصص تبقينا أحياء، طالما أنا أروي قصّة فأنا حيّ، إذا توقّفت عن رواية القصص فسأموت”… تنطبق هذه الكلمات أيضا على المستبدّين الذين يخافون من زوال حكمهم وانقطاع ذكرهم

2
عندما أفتح التلفزيون لمشاهدة الأخبار، فإنّي سأختار من بين عشرات القنوات التي تقدّم المادّة الإخباريّة تلك التي تتضمّن نشراتُها نصيبا وافرا من القصص.

ولعلّ الكثيرين يفعلون نفس الشيء فيتجنّبون القنوات التي تستضيف المحلّلين والخبراء لتذييل ما قرأه المذيع بالكثير من الهوامل والشوامل التي تتعلّق أو لا تتعلّق بالنبأ المذاع، ويساهموا بثرثرتهم في تأثيث نشرة إخباريّة طويلة ومملّة.

للأخبار في القنوات الأجنبيّة طعم آخر، لأنّها لا تكتفي بسرد مادّتها كما استقتها من وكالات الأنباء العالميّة، بل تعكف على إعداد مجموعة من القصص الواقعيّة التي تعطي لعملها قيمة معنويّة مضافة.

يلاحظ المشاهد مثلا أنّ أخبار فيروس كورونا في قنواتنا العربيّة غالبا ما تكون مجرّد أرقام عن أعداد المصابين والمتعافين والقتلى بالإضافة إلى اجترار يوميّ للأضرار الاقتصاديّة والجهود المبذولة لمحاصرة المرض..

بينما نشاهد في قنوات أوربيّة وأمريكيّة قصصا لمرضى بعينهم واجهوا الفيروس ونجوْا بأعجوبة من موت محقّق، وأطبّاء غامروا بحياتهم من أجل حياة الآخرين.. تدخل الكاميرا بيوت هؤلاء وهؤلاء، فيحدّثونا عن حكاياتهم مع ذلك العدوّ الخفيّ، لنكتشف المعاني البليغة للشجاعة والبطولة والإيثار وحبّ الناس والحياة…

كلّ الأخبار مهما كان نوعها تتحوّل إلى قصص شيّقة، فإن تعلّق الموضوع بالأزمة الاقتصاديّة، ستجد العامل البسيط الذي فقد شغله يحدّثك عن الانقلاب الذي شهدته حياته بين عشيّة وضحاها.

وتستمتع إلى صاحب المصنع الذي فُرض عليه الإغلاق وبات مستقبله على المحكّ… وإن تعلّق بالمدرسة والطلاّب، ستدخل مع الكاميرا ضيفا على أسرة تناقش الغياب الطويل لأبنائها عن الدروس وما يسبّبه من أضرار نفسيّة وتربويّة على الأطفال…

وإن تعلّق بكبار السنّ فالكلمة لهم سواء كانوا معزولين في بيوتهم أو في مآوي العجّز.. وقس على ذلك في كلّ المجالات التي تشعرك في النهاية بأنّ تلك القصص هي قصصك أنت، ومشاكلها جزء  من مشاكلك، وحلولها لا تستثنيك… في النهاية، أنت تشاهد نشرة أخبار تحييك، وغيرك يموت في كلّ يوم قهرا وغبنا بسبب الأخبار القاتلة.

3
“القصص تبقينا أحياء، طالما أنا أروي قصّة فأنا حيّ، إذا توقّفت عن رواية القصص فسأموت”… تنطبق هذه الكلمات أيضا على المستبدّين الذين يخافون من زوال حكمهم وانقطاع ذكرهم، لذلك تروي قنوات التلفزيون للشعوب المقهورة قصص حكّامها وتحرص على ذكر حركاتهم وسكناتهم على مدار الساعة، يوما بعد يوم وليلة بعد ليلة.

المستبدّون في تلك القصص هم الأبطال على الدوام.. فلا يجوز لأحد أن ينافسهم في البطولة وحبّ الظهور.. وقد كانت جدّتي، رحمها الله، كغيرها من كبار السنّ تحبّ الرئيس بورقيبة، وتواظب على متابعة توجيهاته، وهي مقتطفات من خطبه القديمة، كانت القناة الوطنيّة تعرضها قبل “شريط الأنباء”. وكنتُ أسألها مُمازحا أثناء الاستماع إلى تلك المقاطع: “هل يرانا بورقيبة الآن كما نراه؟ فتقول بثقة: طبعا!”…

كانت تلك قناعتها. وإجابتها الطريفة غير المتوقّعة تعكس مفهوما للبطولة والأبطال يخصّ جدّتي وأمثالها من البسطاء.

4
يحبّ النّاس سماع القصص التي يرويها البطل بشحمه ولحمه، بلسانه وأحاسيسه. وكان بورقيبة يفعل فيثير إعجاب الكبار، أما أنا فكنت معجبا بجهاز التلفزيون الذي اشتراه أبي بثمن باهظ قبل جميع السكّان في حارتنا الصغيرة. 

إنّ أفضل القصص وأجملها على الإطلاق تلك التي تعلّمنا دروسا بليغة عن الحياة، قصصٌ أبطالها من البسطاء أو الحكماء أو الأقوياء القادرين على مواجهة الظالمين والانتقام للمقهورين

كان الجيران يأتون إلى بيتنا لمشاهدة الرئيس والاستماع إلى كلماته “الساحرة”، فقد كان بارعا في التأثير عليهم. وكانت عيناه تدمعان في أحيان كثيرة، وتبكي الجماهير معه، وتضحك حين يضحكها… فالتونسيّون يفهمون رئيسهم جيّدا، وهو يفهمهم ويتحكّم بعواطفهم، ويحسن توجيهها في القصّة التي كتب أحداثها واختار بطلها، وطلب من المؤرّخين ختمها وإقرارها في سجلاّت التاريخ.

واليوم، مازال بورقيبة بطلا في وجدان التونسيّين، بالرغم من الملفات الخطيرة التي فتحت بعد الثورة، وكشفت عن جملة من التجاوزات والجرائم التي ارتكبها النظام في فترة حكمه.

5
إنّ أفضل القصص وأجملها على الإطلاق تلك التي تعلّمنا دروسا بليغة عن الحياة، قصصٌ أبطالها من البسطاء أو الحكماء أو الأقوياء القادرين على مواجهة الظالمين والانتقام للمقهورين. ولكلّ زمن أبطاله ولكلّ جيل حكاياته. والجميع مُطالب بأن يروي ما استطاع، ويمنح الآخرين قسطا من تجاربه ورؤيته للوجود. فتعلّم كيف تصنع قصّتك وتكون إذا شئتَ بطلا.

مخطئ من يعتقد أنّ الجدّ أو الجدّة هما المطالبان دائما بأن يرويا قصّة للأحفاد. فالعكس صحيح أيضا… عندما كنت طالبا بالمدرسة الابتدائيّة، كان يحلو لي الجلوس في غرفة جدّتي لأراجع دروسي على مائدتها الصغيرة، وكان يلذُّ لها أن تقلّب صفحات الكتب المكدّسة أمامها.. كنت أسترق النظر إليها وألاحظ اهتمامها بالكثير من المضامين. هي لا تقرأ طبعا، ولكنّها تتأمّل الصور وفي عينيها أسئلة كثيرة..

وهكذا بدأت أحكي لها ما تعلّمتُه في المدرسة، حتّى صارت متعلّقة بحكاياتي.. ومرّة كنتُ أراجع سورة من القرآن الكريم، فقرّرت أن أقصّ عليها “أحسن القصص”، قصّة يوسف مع إخوته.. لم تكن جدّتي تعرف شيئا عن يوسف عليه السلام.. أحبّت تفاصيل مغامرته والتشويق الذي في أحداثها، ورأيتُ في قسمات وجهها سرورا لا يوصف. أستحضرُ الآن قوله تعالى في سورة هود: “وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ”.

ما أجمل البيوت التي تجتمع فيها الأسرة بكلّ أجيالها، انتبهوا إلى تلك النعمة، ضعوا الهواتف جانبا، وأدخلوا السرور على أفئدة الكبار والصغار،حدّثوهم ليعيشوا ويَسْعَدُوا!

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها