رِحْلَـتِى إِلَى البيتِ الحرامِ

منذُ عدةِ أيام، رَزقني اللهُ زيارًةً إلى بيتِه الحرام، وكانت تلك هي المرةَ الأولى التي تَطأ فيها قدمَاي أرضَ الحرمِ الشريف. 

ولله تعالى الحمدُ والشكرُ، فقد كانت تلك الرحلة ُالطيبة ُ خيرَ حدثٍ مَرَرْتُ به، ومرَّ بي منذ هجرتي عن وطني وأهلي مستهلَ عام ٢٠١٤، ولى فِي هذه الزيارةِ العطِرَة عِبَرٌ وحِكَـمٌ وعطايا، منحني اللهُ إياها.

جاءَتني فكرة ُالعمرة إلى بيتِ الله الحرام حين حدثني صديقٌ عزيزٌ عن حاجتنا – فى الغربة الصعبة المؤلمة – إلى تغيير جَوٍ – كما نقول بالعامية المصرية، فقد سئمنا هذه الغربة اللعينة، وعلى الفور أجبتُه: “ما رأيك في أن نذهب إلى بيت الله الحرام لأداء عُمرةٍ”، فشاركني الحماسَ بالفكرة قائلًا: ” يلَّا بينا “، ولله الحمد، خلال أيام قليلة – تُعد على أصابع الأيدي الواحدة – ورغم ضيق ذات اليد، يسَّرَ الله عز وجل لنا كلَّ شيءٍ ودبَّرَ لنا بفضله وكرمه الأمورَ كلَها.

وهنا أتوقف مع نفسي وحضراتكم – لبرهةٍ من الزمن – حول هذا المعنى البليغ والمهم للغايةِ في قوله تعالى “وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا”.

حقًّا .. إذا صَدَقَتْ النية ُمع الله سبحانه وتعالى في كل شيء، وفى أي أمر تسعى إليه لكانت إعانة ُالله وتسهيلُه وتوفيقـُه لك حاضرًا وبقوةٍ، وهذا هو الفَصْلُ في فهم الآية الكريمة، فكلُ فردٍ منا ليس عليه إلا الأخذ بالأسباب والتوكل على الله والنية الصادقة، ولنتركْ النتائجَ على ربنا، فهو وحدَه القادرُ على كل شيء، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد استشعرتُ هذا المعنى في ذلك الوقت، فلا قلة ُالمال ولا المشاكلُ التي نمرُّ بها ولا الغربة ُولا البعدُ عن الأهل والأحباب ستقف حائلًا أمام تحقيق هدفك في زيارة بيت الله الحرام ، وتحقيق أمنيةٍ تمنيتـَها وسعيتَ إليه.

والآن، أعودُ ثانيةً إلى العمرة وأجوائِها الإيمانية الرائعة والإحساس البديع الذي أحسسته عندما ارتديتُ زيَّ الإحرام في مطار إسطنبول وركبتُ الطائرة َ، وتحيطُنى أجواءُ التكبيرات التي افتقدتها منذ آخر رمضان حضرته في مصر في عام ٢٠١٣، وما إنْ وطئتْ قدماي الأراضي المقدسة، متجهًا إلى مكة المكرمة، وأنا في حالة وجدانية – لم أمر بها من قبلُ –  فلربما نمر بمثيلَتِها عند العودة إلى تراب وطني الغالي المُبعدِ عنه قهرًا.

الحمد لله أتممتُ كلَّ شيء، ووضعتُ حقائبي في الفندق، وتوجهتُ رِفْقَةَ صديقي العزيز وأخي الكبير ورفيق الرحلةِ المباركة إلى هذا المكان الذي يشع نورًا وبركةً، وهنا أدعو الله فأقول: “اللهُمَّ زِدْ هذا البيتَ تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً وزِدْ مَن شرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ ممن حَجَّه أو اعْتَمَرَه تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبِرًّا”، وما إن اقتربت منه لم أستطعْ التحكمَ في مشاعري، إذ وجدتُنِي أتحركُ مُهَرْوِلًا، وعندما دخلتُ البيتَ الحرامَ ورأيتُ الكعبة َالشريفة – لأول مرة في حياتي – رَأْي العين، أحسستُ بشيءٍ غريبٍ يسري في جسدي، اللهَ اللهَ على حلاوة وروعة هذا المنظر، اللهم اكتبها لكل من تمنَّاها، اللهم آمين.

إنَّ أكثرَ ما لفتَ انتباهي – في هذا المكان الطاهر – هو نقاءُ القلوب وصفاءُ النفوس، إذ إنك تحترمُ من بجوارك وتبتسم في وجهه وأنت لا تعرفُه، بل ربما يكون صاحبَ لغةٍ غيرِ لغتك، ولكنْ صدقًا، فإن القلوب هنا تتلاقى فلا شحناءَ ولا خبثَ ولا كذبَ ولا نفاقَ ولا رياءَ ولا كلَ أمراض الدنيا التي نقابلُها في حياتنا يوميًا، وهذا الذي نحتاجُه صدقًا لكي ننجحَ ونتقدمَ – نحن أمة َالإسلام – حين نتحلى بصفات الحبيب المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم، فلا نتباغضُ ولا نتخابثُ ولا نحملُ في أنفسنا كِبرًا، ووالله العظيمِ لو فعلنا ذلك، فلن تتكالبَ علينا الدنيا ولا أعداءُ الإسلام، ولن تكون حروبٌ في بُلداننا العربيةِ والإسلامية.

لاحظتُ كذلك – خلال تلك الرحلة المباركة – فضلَ اللغة العربية علينا، وفضلَ حفظِ وقراءةِ القرآن الكريم بسهولةٍ ويسرٍ، فوالله لقد توقفت مع نفسي وأنا أرى آخرينَ يبذلون الجُهدَ الجَهيدَ في تعلم كيفيةِ قراءة القرآن الكريم، بل هم حريصون كلَّ الحرص على التعلم والقراءة، ونحن – أبناء اللغة العربية – نهجرُ القرآنَ، بل نسيئُ إلى اللغة العربية في كتابَتِنا وقراءتِنا، فلا نجيدُ قواعدَها، ولا نهتمُ بها ولا نحْرصُ على تعلمِها على النحو الأمثلِ.

إضافة إلى ذلك، رأيتُ – للأسف الشديدِ – بعضَ التصرفات التي لا تليق بِنَا كمسلمين خاصةً في خير بقاع الأرض، سواءٌ كان ذلك أثناءَ الطواف أو في الصلاة، فمن ذلك، الاستخدامُ المُبالغُ للهواتف المحمولة أثناء أداءِ المناسك المقدسة، من تصويرٍ وبث مباشر وتدافعٍ غيرِ محموم عند الحجر الأسود، لذا أنصحُ نفسي وكلَ إخواني المعتمرين بالكف عن إفساد عُمرتِهم بالتصوير والبث المباشر أثناء أداء المناسك، أنا لا أمنعُ التصويرَ، فقد تصورتُ وفرحتُ والحمدُ لله، ولكنْ افعل ذلك – يا أخي الكريم – عقب انتهائِك من أداء العمرة، حتى لا تُفقِدَها جوَّهَا وقيمتَها وربما ثوابَها.

في نهاية تدوينتي هذه – أقول: ” إنني أردتُ أن أقُصَّ هنا ولو جزءًا بسيطًا مما رأيتُ في تلك الرحلة المباركة، كي أوضحَ عظمَ هذه الرحلة، وأدعو بقلبٍ صادق كلَ أصدقائي وأحبابي ممن لم يَشرُفْوا بتلك الزيارة، أن يجعلوها في مقدمةِ أولوياتهم ويسعون إليها جاهدين، والحمد لله رب العالمين، فمهما كُنتَ مُثقلٍا بالهموم النفسية والعثرات المادية والالتزامات الحياتية، فإنِّ الله – سبحانه وتعالى – سوف ييسرها لك،فقط أقول لك: ” اعقد النية َ، وتوكلْ على الله، ولا تنْسَنِي وأمةَ الإسلام ِمن صالح دعائِك، باركَ اللهُ لنا ولك، وتقبل منا ومنك صالح الأعمال”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها