رفاعة الطهطاوي.. شيخ مُعمَّم أم خواجة ببرنيطة؟

رفاعة الطهطاوي

إنه الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (15 من أكتوبر/تشرين الأول 1801 – 27 من مايو/أيار 1873م) أبرز رواد النهضة العربية في عهد محمد علي، وبتعبير المرحوم الدكتور محمد عمارة “كان بحق أبًا ليقظتنا الحديثة وأبًا لكل الذين يعتزون بهذه النهضة التي قادها في مطلع عصرنا الحديث”، بل اعتبره رائد نهضة “الوطن العربي” و”العالم الإسلامي” أجمع.
ذهب إلى فرنسا في البعثة التي أرسلها الوالي محمد علي باشا (1769 – 1849م) لتلقي العلوم الحديثة، فلم تقعد به همته عند حدود وظيفته التي كُلف بها، بل سعى إلى أن يقف على حضارة الغرب وثقافته، وبدأ في تعلم الفرنسية وهو على ظهر السفينة التي تُقل البعثة إلى باريس، وما فعله هذا الشيخ النابه كان وليد قرار قد اعتزمه في نفسه من قبل، بفعل اتصاله بالشيخ حسن العطار (1766م – 1835م)  الذي تتلمذ عليه وسمع منه عن علوم الفرنسيين الواسعة وفنونهم، وكان العطار قد اقترب من علماء الحملة الفرنسية وأدرك الهُوة الواسعة التي اتسعت بين الغرب والعالم الإسلامي في مجال الحضارة والتقدم.
انكب الشيخ رفاعة على الدرس والتحصيل والقراءة والترجمة، وتحول الإمام الفقيه إلى دارس يتعلم ويبحث، وغدا إمام البعثة أنجب المبعوثين.
وبعد سنوات خمسٍ حافلة، أدى رفاعة امتحان الترجمة، وقدَّم مخطوطة كتابه الذى نال بعد ذلك شهرة واسعة :تَخْلِيصُ الإِبْرِيزِ فىِ تَلْخِيصِ بَارِيز.
لقد بلغ عدد من أرسلهم محمد علي باشا إلى أوربا في زمنه 319 طالباً أنفق عليهم 224 ألف جنيه مصري. واستطاع هؤلاء التلاميذ أن يساهموا بشكل مباشر وفعال في تغيير وجه المجتمع المصري على كافة الأصعدة، كما ساهموا في تغيير بنية المجتمع الاجتماعية والفكرية هم وتلاميذهم الذين جاءوا من بعدهم.

انكب الشيخ رفاعة على الدرس والتحصيل والقراءة والترجمة، وتحول الإمام الفقيه إلى دارس يتعلم ويبحث، وغدا إمام البعثة أنجب المبعوثين، وبعد سنوات خمسٍ حافلة، أدى رفاعة امتحان الترجمة، وقدَّم مخطوطة كتابه الذى نال بعد ذلك شهرة واسعة :تَخْلِيصُ الإِبْرِيزِ فىِ تَلْخِيصِ بَارِيز.

في سنة 1832م عاد الطهطاوي إلى مصر من بعثته، وكانت أولى الوظائف التي تولاها بعد عودته من باريس، وظيفة مترجم بمدرسة الطب، فكان أول مصري يُعين في مثل هذه الوظيفة.
وفي سنة 1833 انتقل رفاعة الطهطاوي من مدرسة الطب إلى مدرسة الطوبجية (المدفعية) بمنطقة (طره) إحدى ضواحي القاهرة كي يعمل مترجمًا للعلوم الهندسية والفنون العسكرية.
وفي سنة 1835 تم افتتاح أول مدرسة للغات في مصر بناء على مساعٍ من الشيخ رفاعة، وكانت تُسمى أول الأمر (مدرسة الترجمة) والتي كانت تدرِّس إلى جانب اللغات: الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية، ثم تغير اسمها بعد ذلك إلى (مدرسة الألسن) وهي الآن كلية الألسن التابعة لجامعة عين شمس بالقاهرة، وكانت كل العلوم في الألسن باللغة العربية وهو ما نفتقده في تدريس العلوم في وطننا العربي اليوم. ليكون رفاعة بذلك هو أول منشئ لجامعة مدنية عربية في العصر الحديث.

صورة نادرة للشيخ رفاعة الطهطاوي

وقدم رفاعة إلى محمد علي مشروعا لحماية الآثار والذي نص على أن تسلم إلى مدير مدرسة الألسن جميع الآثار التي يجدها الأفراد ليتحول فناء المدرسة إلى نواة لأول متحف آثار بمصر، وهو ما يعكس موقفًا وطنيًا بالأساس.
كما تولى الإشراف على جريدة (الوقائع المصرية) التي صدر عددها الأول في 3 من ديسمبر/كانون الأول 1828م، ويُحسب للطهطاوي أنه ما أن عهد إليه بالإشراف على الصحيفة عام 1842 حتى قام بتحويل نهري الصحيفة والتي كانت تصدر منذ بدايتها في نهرين الأيمن باللغة التركية والأيسر ترجمة له بالعربية، ولكن رفاعة عكس النهرين والذي لا يمكن أن نعتبره مجرد غيرة شكلية للغة العربية بل إن ذلك يعني أن الصحيفة تصدر بالعربية والتي تترجم إلى التركية، وعليه يمكن اعتبار الطهطاوي أول من أنشأ جريدة صحفية بالعصر الحديث، وأول صحفي مصري.
وشهدت الصحيفة تحت إشراف الطهطاوي نشأة ما يُعرف بالمقال السياسي بالصحيفة
لقد صنف صالح مجدي، تلميذ الطهطاوي وكاتب سيرته، تلاميذ الشيخ رفاعة الذين أفادوا مختلف الحياة الفكرية والثقافية والذين زاد عددهم عن المائة.        
وللوقوف على حقيقة الدور الذي لعبه الطهطاوي فيكفي أن نعرف أنه حتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي كانت مصر والعرب قاطبة غرقى في ظلمات الجهل والتخلف.
ونستوثق من هذا من خلال عمدة المؤرخين في تلك الفترة وهو عبد الرحمن الجبرتي (1754 – 1825م) والذي ذكر في مصنَّفه النفيس (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) – المجلد الأول ص276 حوارًا دار بين الوالي العثماني أحمد باشا والذي قَدِم إلى مصر واليًا عليها عام 1749م وبين الشيخ عبد الله الشبراوي (1681-1757م) شيخ الأزهر حين استنكر الوالي العثماني عدم دراية كبار علماء الأزهر بالعلوم الدنيوية، فكان رد الشيخ الشبراوي أن “غالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة إلى علم الفرائض والمواريث”، وعلل ذلك بأن “أهل الأزهر غالبهم فقراء وأخلاط مجمَّعة من القرى والآفاق”.
وهذه القصة هي تجسيد صارخ لحالة التردي الشديدة التي وصلت إليها الأمة تحت سلطة العثمانيين وسلطان المماليك.
لقد أدرك رفاعة أن العلاقة بين الحضارات الإنسانية “سلف ودين” وعليه فلم يكن أسيرًا للحضارة الغربية ولا مفتونًا بها وهو الذي سمع من أستاذه (جومار) أن الغرب “مدين” بحضارته للشرق.
وتميز الطهطاوي بأنه لم يكن مفكرًا ومنظّرًا بعيدًا عن أرض الواقع بل إنه مزج الفكر بالعمل، إنها العبقرية في الربط بين “النظرية” و”الواقع”، وهو ما يعبر عن الدور الحقيقي الذي يجب أن يلعبه المثقف.
ولعل ذلك يوضح ملمحًا آخر في شخصية الطهطاوي؛ وهي أن الرجل لم يكن مجرد ناقل عن الغير بل كان مستوعبًا وهاضمًا لكل جديد وغريب.
يُذكر أن حصيلة المطابع التركية خلال قرن من الزمان (1728-1830م) لم تتعد الأربعين كتابًا فيما زاد ما ترجمه الطهطاوي وتلاميذه عن ألفي كتاب خلال أربعين عامًا، وهذا تباين كمي بخلاف ما كان بينهما من تباين كيفي يرجِّح كفة القاهرة على الأستانة.
وبالنظر إلى عطاءات رفاعة نجد أنه ينتمي إلى طائفة المفكرين والكتاب الموسوعيين الذين أبحروا في علوم عدة وأخذوا من كل منها بنصيب وافر وليس إلى العلماء المتخصصين الذين كرسوا جهدهم لعلم واحد.
بل لعل الطهطاوي هو أول عربي التفت في العصر الحديث إلى المنهج الاجتماعي في كتابة التاريخ، وهو أن التاريخ ليس تأريخًا للملوك والحكام بل هو تأريخ للحضارة بكافة منجزاتها وظواهرها.

ولا عجب فقد ظُلم الرجل من بني جلدته سواءً بالإهمال أو بالتصنيف التعسفي ما بين متشددين رأوا فيه بوقًا للغرب ودمية لتحقيق مطامعه وبين آخرين رأوا فيه خواجة لا يمت لأصله العربي أو الإسلامي بصلة، والحقيقة أن الرجل لم يكن هذا ولا ذاك؛ فهو خير من جمع بين القديم والحديث وبين أصالته كشيخ معمم وحداثته كمفكر خالط الغرب بقلبه وعقله ونقل كل ذلك إلى بني جلدته كي يفيقهم من غفلتهم.

لقد أدرك رفاعة أن الغرب لديه الغث والسمين وكانت رؤيته أن نستلهم كل ما هو سمين وندع ما هو غث ويرى ذلك أفضل من ترك الأمر بكليته وهو ما ظلت الأمة حائرة بشأنه حتى يومنا هذا.
فهو وإن وافق الفرنسيين في بعض المظاهر الاجتماعية إلا أن موقفه من الشريعة الإسلامية وحاكميتها كان واضحًا بقوله “إن بحر الشريعة الغراء على تنوع مشارعه لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها بالسقي والري”، وهو الموقف الذي لم يستوعبه كثيرون من غلاة العلمانيين والإسلاميين على حدٍّ سواء، فذهب به كل فريق إلى طرفي نقيض.
لقد رفض الطهطاوي ما سعى إليه الفرنسيون من هيمنة على الشرق وفي القلب منه مصر ويعلق على ذلك بقوله:
نعم.. بيننا جنسية الود والصفا    ولكنني لم ألفها علة الضم
وعلل ذلك بقوله إن “الأمة المصرية أصعب ما على نفوسها الانقياد للأغراب”، وهو ما لم يدركه كثير من رافضي رفاعة ومهاجميه ولعلهم في ذلك قرأوا عن الرجل دون أن يقرأوا له.
وعلى الرغم من تلك المكانة السامقة التي بلغها الشيخ فإننا نجد عدم احتفاء من المستشرقين برفاعة الطهطاوي، ففي كتاب “تاريخ الشعوب الإسلامية” للمستشرق الألماني الشهير كارل بروكلمان وفي قسم منه استغرق حوالي  100 صفحة تناول فيها الحياة الثقافية في عهد الخديو إسماعيل لم ترد إشارة واحدة للطهطاوي، وفي تاريخ العرب للدكتور فيليب حتى وفي الجزء الثالث يتناول عصر محمد علي من دون إشارة واحدة لرفاعة. وهذان مجرد مثالين لكثير من المستشرقين الذين نحوا المنحى ذاته.
ولا عجب فقد ظُلم الرجل من بني جلدته سواءً بالإهمال أو بالتصنيف التعسفي ما بين متشددين رأوا فيه بوقًا للغرب ودمية لتحقيق مطامعه وبين آخرين رأوا فيه خواجة لا يمت لأصله العربي أو الإسلامي بصلة، والحقيقة أن الرجل لم يكن هذا ولا ذاك؛ فهو خير من جمع بين القديم والحديث وبين أصالته كشيخ معمم وحداثته كمفكر خالط الغرب بقلبه وعقله ونقل كل ذلك إلى بني جلدته كي يفيقهم من غفلتهم.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها