رسالة إلى جمل

مترجم من الفرنسية عن مقال للصحفي الموريتاني الراحل حبيب ولد محفوظ

« ليس النقد فعلا، إنه يكتفي بمتابعة الفعل». لودڤيگ فيورباخ

عزيزي الجَمل،

أعرف أنه ليس مِن السهولة بِمَكان أنْ تكونَ جَملا في الوقت الحالي، تتسنم مِن الصعاب ما يجعلكَ تعجز عن التفكير في أي شيء آخر، إلا أني أجزمُ أنك تسامحني، مِن أعماق صحرائك، إذْ أوجِّهُ إليك هذه الرسالة.

أكتبُ إليكَ، في الواقع، لكي لا أقولَ شيئا. هذا رائع، أليسَ كذلك ؟ أولا، لا تَكترثْ للقولة التي استشهَدتُ بها في مُستهَل خطابي، فهي لا تعني شيئا. صحيح أن فيورباخ هذا ليس مِن البلادة في شيء، لكن هذا لا يبرر شيئا. إنما هو عَجزُنا الثقافي الحالي عن أنْ ننتجَ بأنفسنا لأنفسنا. قد دخلنا عصرا ثقافيا وسيطا حيث عبارةُ « قال فلان » متداولة بين الناس أكثر مِن غيرها. أصبحنا مستهلكين في كل أوقاتنا، إلا أننا لا نستهلك سوى منتوجات مِن الدرجة الثانية، نفايات سامة.

إن فضاءَنا الثقافي عبارة عن مَسرح كئيب يحذو فيه شباب بشواربَ نيتشوية حذوَ شيوخ، أورادُهم عبارة عن شواهدَ مِن القرون الوسطى. يعمل كل مِن جانبه على الركح، يصرخ، ينادي، يتفنن في كيل التهَم، ينفيها، يتغاضى عنها، يفترض أشياء، يرفضُها، يفرضُ ذاته، أمامَ قاعة فارغة، غادرَها الجمهورُ، قد مَل مِن الحركات البهلوانية. أغرقَتْ جوقةُ « النخبة » هذه المَسخرةَ في بَحر مِن الأصوات المتنافرة التي لا يسمعها أحد.

أيها الجَمل، لم تَعد ثقافتنا سوى قطعة مِن ورق في مرحاض. بِتْنا نُجيدُ التقليدَ، النسْخَ، الخ. الصحافةُ، احترامُ المعايير، الترفُ الفكري، التكرارُ، هذه هي الكلمات المفاتيح لدينا.

تُذهلنا المنتوجاتُ المستوردةُ. نَقتاتُ على الإيديولوجيات المطبوخة في مطاعم الهزالة الكونية، نَلوكُ العلكةَ التي لَفَظَها آخرون منذ زمان في أماكن أخرى.

كل هذا لأقولَ لك إني استشهدتُ بمفكر ألماني لأعبرَ عن فكرة، في إمكان أي جَمل أنْ يجدَها وهو يَجتر.  

اسمَح لي، أيها الغالي ( كم أنتَ غال ! )، أنْ آخذَ مِن وقتك الثمين. لحُسن الحَظ أنكَ لا تملك ساعة ! أتدري ؟ هذا الشيءُ الشيطاني الذي يقيس الوقتَ، يُكيفنا حتى أني أتساءل إنْ لم يكن هو الذي اخترعَنا. بالمناسبة، هل تتابع بانتظام دروسَك في مَحو الأمية ؟ لا تَقل إنكَ كنتَ تعرف القراءةَ  والكتابةَ مِن قَبل، هذا غير صحيح، فليسَ يسيرا على مَن هو في سنك أنْ يخرجَ مِن نعيم يقينياته ليتعلمَ. نتساءل دوما عن جدوى التعلم في هذا السن، خصوصا إنْ لم يكن وراءه هدف محدد. حَسنا، سَجلْ أيضا جدتَك، هكذا على الأقل تتمكن من متابعة أخبار مساء الأربعاء على أمواج إذاعة موريتانيا.

عزيزي الجمل، عدا هذا، ما أحوالك ؟ ما أحوال ابنِ أخيك ؟ لقيتُه ذاك اليوم. قال لي إنه، بعدَ أنْ تنقلَ بين الخليج، ليبيا والسنغال، قد بدأ يعمل سائقَ سيارة أجرة. وهو عمل مُربح على كل حال. في نواكشوط لا توجد سوى سيارات قليلة والناس كثيرون، حتى أني اقترحتُ على شخص مِن ذوي المكانة الرفيعة بالبلد الآتي: أنْ يُقِل الأشخاصُ السيارات. هذا مِن شأنه أنْ يَحل المشكلَ ويوفرَ المالَ. نضع جميعا بطاقات على جباهنا وصفائحَ على رؤوسنا، وترفع السياراتُ عجلاتها الأماميةَ لإيقافنا.

ابتداءً مِن يناير 89، سيتطلب الأمرُ رخصة لقيادة الجِمال.  تصور! قف ! الشرطة ! الأوراق ! الكابح اليدوي ! الغمازات ! اهبطوا ! ماذا في بطنك ؟ التأمين ! حمولة زائدة ! قل لي، أتتصور هذا ؟ جمل يقف عند إشارة الوقوف، احتراما للضوء الأحمر. يقف ملءَ قوائمه ليقِلَ امرأة حسناء في زهرة العمر !

لنضَع حدا لأحلامنا.

تضحك، تضحك أيها الجمل وأنتَ مُخطئ، فهذه الحياة تروق لي في الأعماق. هي دارُ مَمَر وستختفي مِن تلقاء نفسها. الحالة محرجة لكنْ غير ميؤوس منها. ما زالَ رجال ونساء يثقون  ببلادهم بالرغم مِن الخَطابة الغبية، الخِطابات المعتمة، الإيديولوجيات المتقادمة، التحليلات المبتذلة، بالرغم مِن المخالفات التي نسجلها ضد الجِمال، أمية البقرات، الروث الذي يباع في الأسواق الممتازة، حمالات الصدور المفروضة على الماعز، بالرغم مِن سَمَكنا الذي نُصَدره لكي نستوردَه لاحقا، حديدِنا الذي نبيعه لنشتريه بعدَ ذلك.

بالرغم مِن رجال الأعمال الذين لا يقومون بأي عمل، المديرين الذين لا يديرون شيئا، المُدَرسين الأميين، المطربين الصم، العدائين المصابين بالشلل، فنحن لم نفقد الأملَ أيها الجمل  ونحن على صواب إذْ لم نفقده.

أيها الجمل، بين كثبانك والنجوم الكئيبة، قد يصيبك المَلل. تعالَ إلى هنا، إلى نواكشوط، أحضِر عائلتك، جيرانك، راعيكَ أيضا إنِ اقتضى الأمر، هذا الجلاد السادي. تعالَ. خُذ ورقَ الجرائد، سطلا، وعلبةَ فاصولياء فارغة وأقِمْ كوخَك حيث شئت. أراك تمشي بسوق المقاطعة الخامسة بخُطى ثابتة بين بائعي الملاحف  وبائعات الدراريع، تفعل ما يفعله الناسُ جميعا.

أنتَ موريتاني قح !  لا تنسَ بطاقتك الوطنية، مِلَفك القضائي، وألصِقْ طابعا بريديا مِن فئة 50 أوقية على فمك. هكذا لن تستطيع أبدا فتحَه وستظهَر في صورة طلَب خَطي.

أيها الجمل، أخي الجمل، لا تأتِ إنْ شئتَ، إني أفهمك. نحن نفهمك،  قد ذُقنا، مثلك،  خَمرةَ  الفضاءات الشفافة، التي لا يَحُدها البصَر، قد نَهلنا مِن ضياء القمر، مثلكَ أنت. مثلك، قد وجدنا السراب، بحثنا عن أماكن غير موجودة، أيها الجمل، وقد أدركنا أن الشِّعرَ ضروري في عالم آخر غير عالمنا، فارتحلنا.

الظاهر أيها الجمل أن بلدي، شعبي، قصيدة مُهَلهلة وغير مكتملة. قصيدة تكتب نفسَها، تحيا، تبني لحمَها مِن لحمها، تتنفس العالَم  حسبَ إيقاعها الخاص.

وأنا، وأنت، ونحن، لسنا في آخر المطاف سوى خَونة، مرتدين.

والسلام.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها