حوار متمدن مع صديقي المعادي لأردوغان

شبان يعلقون لافتة ضخمة لصورة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
شبان يعلقون لافتة ضخمة لصورة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان

سألني أحد الزملاء الأكاديميين، يوما في الجامعة أمام جمع من الزملاء المأطرين أيديولوجيا وحزبيا، لماذا تنحازون إلى أردوغان، ويقصد الإسلاميين؟

فقلت له ببساطة شديدة، بعيدة عن الجدل العقيم وجفاف الأيديولوجيا، التي توقع مني أن أتخذها سلما للإجابة، سأعتمد منهج التحليل في الاجتماع السياسي للإجابة فأقول:

هناك أسباب كثيرة لإعجاب الإنسان بالأشخاص والأفكار والأشياء والأماكن والأزمان والأحوال، فبعضها قائم على الهوى والعصبية، وبعضها ينبني على التحليل والاستقراء المنهجي الذي يقود إلى صناعة الأحكام وتبنيها، وسأحاول اتباع المنهج الثاني للإجابة على سؤالك، وكنت أسير معه خطوة خطوة ولا أنتقل إلى التي تليها حتى انتزع موافقته على الأولى، أمام المستمعين للحوار، ثم سقت له عددا من الأسباب أحاول اختزالها للفائدة:

1- السبب الأول شرعية الحكم، فقد جاء الرجل وحزبه إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع وبإرادة شعبية في خمسة انتخابات متتالية، ولم ويأت بالانقلاب والتغلب، لا على ظهر دبابة ولا بالوراثة الجمهورية (الجملكية) ولا بالوراثة القبلية، كزعماء المنطقة والنخب الحاكمة المستبدة، والبون شاسع، أليس كذلك؟

2- شرعية الإنجاز، فقد نقل مجتمعه الفقير المنهك بالمشاكل الداخلية، من مقاييس وتصنيفات دول العالم الثالث حيث التخلف والأمية والمرض، إلى معايير دول الرفاه الاجتماعي في مختلف الميادين.

والانجازات الخدماتية في التعليم والصحة والتخطيط الاستراتيجي والحكم الرشيد، لا تحصى ويضيق بها هذا المقال.

3- لأنه نجح في ترسيخ أسس الدولة المدنية وفي ترويض النخبة العسكرية للاذعان للحكم المدني الديموقراطي القائم على الإقرار بمبدأ التداول السلمي للسلطة، في حين أن النخب السياسية العلمانية والحداثية العربية كانت أكبر المحرضين للعسكر للانقلاب على تجربة اللحظة الديموقراطية الجنينية في بلدان ما سمي بثورات الربيع العربي، ودخلت البلاد في فوضى حرب الكل ضد الكل، وهي من وسائل انهيار الحضارات التي تحدث عنها علماء الحضارة والاجتماع.

4- لأنه نجح في إحداث تصالح المجتمع مع ذاته، بعدما كانت العلمانية الكمالية قد سلخت المجتمع عن مكوناته الثقافية والحضارية المتمثلة في الدين واللغة والأبجدية والأسرة والمنظومة القيمية، وأدخلت المجتمع والدولة التركية في حالة من الصراع مع الذات وفقدان الهوية والاستلاب الذاتي، أما العدالة والتنمية بقيادته الرشيدة المنفتحة فقد نجح في رد المجتمع والدولة إلى رشدهما وجنب بلاده العنف المدمر والاحتراب مع الذات، اللهم إلا في الملف القومي الكردي الذي لم ينجح فيه أي عهد من العهود السالفة، باعتباره يعني تقسيم الوطن التركي .

في حين أن التجارب العربية اليوم مشغولة في التنافس حول القضاء على مكونات الهوية العربية، دينا ولغة ومقدسا وثقافة ومنظومة قيمية، أسريا وأخلاقيا. مما وفر مساحة شاسعة وبيئة مواتية (على قاعدة رد الفعل) للفكر الشاذ والفعل المتطرف العنيف. وذهب المجتمع ضحية بين قتيل وجريح ومشرد، في أسوأ تنافس بين النظم والتنظيمات في استباحة الدم والمقدس والأرض والعرض والإنسان.

5- شرعية الانجاز في العلاقات الدولية الذي وضع بلاده من خلالها في منظومة (G20) دول العشرين الكبار، بعدما كانت عبارة عن دولة تابعة للغرب تعيش حالة انعدام الوزن السياسي في علاقاتها الدولية. وقاعدة عسكرية متقدمة لحلف شمال الاطلسي (النيتو)، في صراعه مع الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي.

6- شرعية استقلال القرار الوطني الفعلي القائم على أساس الاستقلال الاقتصادي والقوة الذاتية لبلاده والتماسك الداخلي للنظام السياسي والمجتمع.

7- التحرر من التبعية المطلقة للغرب وبناء علاقات دولية متوازنة مع الكتلة الأطلسية وروسيا وسائر دول العالم قائمة على المصلحة الوطنية التركية أولا. وتمكن خلالها من تنويع مصادر التسلح إلى جانب التوجه نحو الاعتماد على الذات في الصناعات العسكرية بكافة أنواعها.

8- الاصلاحات الدستورية التي أعادت بناء أسس الدولة المدنية الحديثة التي تضمن الفصل بين السلطات وتجمع بين الدولة الديموقراطية والتشريعات الجاذبة للاستثمارات العالمية، وتوفر المناخ الاستثماري الآمن لرأس المال الأجنبي.

9- إعادة الاعتبار للمرأة التركية، ففي الوقت الذي كان النظام ما قبل العدالة والتنمية يقوم على تغريب المرأة التركية، وإقصاء المرأة من ذوات التوجهات الإسلامية، أعادت الاصلاحات الدستورية الأردوغانية التوازن والمساواة إلى المنظومة التشريعية على قاعدة عدم التمييز بين المواطنين على أسس الدين واللغة والجنس والمذهب السياسي.

10- تعديل السياسة الخارجية التركية فيما يتعلق بملفات النزاع في الشرق الاوسط والمظلوميات العالمية وانتهاكات حقوق الإنسان وعلى رأسها القضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية، الأمر الذي جعل الرئيس أردوغان زعيما كاريزميا عابرا للحدود الجغرافية لبلاده والإقليم. ويحظى باحترام كبير لدى المعارضة في بلاده وان اختلفوا معه في السياسات والبرامج والأفكار.

وعليه فإنني أعتقد يا صديقي أن القيمة الحقيقية لزعامة أردوغان ستظهر بعد مغادرته للحلبة السياسية، حين تتحول التجربة لظاهرة تاريخية خاضعة للدراسة والتقييم.

وفي الختام قلت لزميلي: ألا يستحق كل هذا الانجاز أن نرفع له القبعة احتراما سواء كنا من مؤيديه أو معارضيه، كما كنا نسجل الاعجاب لغاندي ومانديلا وجيفارا وأمثالهم من نماذج النضال العالمي، في حين أن أحدا من هؤلاء لم يعمل لبلاده عشر معشار ما عمله أردوغان لبلاده؟

قال صديقي: بلى، فقد أحدثت شرخا في قناعاتي، رغم أني ما زلت لا أحبه ولا انحاز له، فقد كنت أتوقع منك أن تشن عليّ حربا كلامية باعتباري لست محبا لأردوغان ومخالفا له ولمذهبه الحركي الإسلامي؛ فتكفرني وتخونني وتخرجني من الملة.

قلت له: على رسلك يا صديقي، فنحن لا نعبد الأشخاص، ونحكم على الأفعال، ولا نسلك طريق التكفير والتخوين في الخلاف، فالخطاب الفكري ليس واحدا حتى في التيار الواحد، ففي فكرنا متسع للاختلاف المشروع في الاجتهادات السياسية والفكرية.

ثم تحولت العلاقة بيننا فيما بعد، إلى صداقة قوية، مع الحفاظ على مساحة الاختلاف بيننا في الاجتهاد والمواقف، من الأحداث والأشخاص والهيئات.

نعم أردته ان يكون نموذجا للحوار المتمدن وقد كان، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها