جزيرة الأقزام

 

في البحر الوردي الكبير جزيرةٌ لا يغادرها أهلها وفق قرار زعيمها الذي يخشى عليهم من عمالقة الجزر المجاورة كما يشفق عليهم من السخرية لقصر قامتهم وغرابة هيئتهم ولغتهم الركيكة التي لا يتحدث بها غيرهم.

يؤمن شعب الجزيرة أن زعيمهم – بخلاف حكمته وحنكنه السياسية وخلفيته العسكرية – يتمتع بمهاراتٍ عدة في التواصل وإقامة العلاقات مع قادة الجزر الكبرى والتي استطاع بها حماية جزيرة الأقزام من عدوان أهل الشر رغم قلة مواردها وندرة ثرواتها.

كان الزعيم دائم السفر في زيارات خارجية تاريخية، يبرع فنانو الجزيرة في رسم نتائجها في مشاهد ينحتونها على لوحات الطين المنتشرة بشوارع الجزيرة الرئيسية والتي يظهر فيها زعيمُ جزيرة الأقزام عملاقاً وهو يصافح زعماء الجزر الكبرى سائراً بفخر على البساط المصنوع من أوراق نبتة القرع الحمراء التي تتميز الجزيرة بزراعتها طوال العام.

بعد كل زيارةٍ يعود منها الزعيم ينطلق منادي الديوان في حواري الجزيرة يدعو شعبها للاحتشاد أمام لوحات الطين التي انتهى من نحتها الفنانون تخليدا لزيارة الحاكم التاريخية يجسدون فيها كيف استفادت تلك الجزر وحكامها من فيض حكمته وبراعته في السياسة والدبلوماسية والتاريخ والفلسفة.

ذات ليلة.. وأثناء سفر الزعيم في إحدى زياراته.. سمع الناس صوتاً عالياً متتابعاً يشبه صوت طواحين هواء مصنع الطوب غربي الجزيرة ، خرجوا على أثر الصوت فإذا بشيء ضخم يهبط من السماء يشبه ( دبور العسل) الذي ينقل حبوب اللقاح بين ثمار القرع – التي تتميز الجزيرة بزراعته – ينزل من السماء يصدر منه نورٌ مبهر أضاء شاطئ الجزيرة كأنه النهار ، بعد أن استقر- دبور العسل الضخم هذا- كان الضوء الصادر منه يعكس ظلاً كبيراً بطول الشاطئ فيما يبدوا أنه لأحد عمالقة الجزر المجاورة التي يحكي عنها دوماً زعيمهم ، كان صاحب الظل يقترب من سياج بيوتهم ببطء وكلما ابتعد عن مصدر الضوء تضائل الظل ليتضح صاحبه شيئا فشيئا ، حتي فوجئ الناس أمامهم بقزم مثلهم في نفس طولهم ، لكنه يرتدي ملابس أفضل من ملابسهم وحذاءً محكماً علي قدميه ليس كأحذيتهم المصنوعة من أخشاب الشجر أو جلود الأرانب المنتشرة بالجزيرة ، ويحمل علي ظهره حقيبة كبيرة و بيده وفوق صدره معدات غريبة لم يروها من قبل .

ألقي عليهم التحية.. فإذا به يتحدث ذات لغتهم.. بعد أن اطمأنوا إليه رحبوا به واستضافوه..

في مضيفة بيت طبيب الجزيرة القريب من الشاطئ بادر الغريب بالسؤال.. هل هذه (جزيرة الموز)؟

ضحك جميع الحضور كثيراً ثم رد عليه الطبيب تقصد (جزيرة الأقزام)!

قال الغريب: لا بل جزيرة الموز

قال الطبيب يبدو أنك أخطأت الطريق

قال الغريب: لا لم أخطئ واسم جزيرتكم بالفعل هو جزيرة الموز وذلك منذ ما يقرب من ستة عقود عندما تنازل قادة الدرك عن (جزيرة الجنوب السمراء)! بعد انقلابهم على ملك (جزيرة الوادي الكبرى) اسم جزيرتكم وقتها..

ثم توقف قائلاً: انتظروا.. وأخرج من حقيبته شيئاً يشبه (مرآة) زوجة زعيم الجزيرة التي لا تفارق يدها، كان كلما لمس هذا الشيء بإصبعه لأعلي أو لأسفل تظهر على سطحه مشاهد عجيبة تشبه الحقيقة تماماً لأشخاص وحدائق وبحار ورسومات مثل (خرائط المؤامرات) التي يأمر برسمها ديوان الدرك في أعياد الجزيرة القومية على ألواح الطين توضح مطامع أهل الشر في جزيرتهم ذات الموقع المتميز والتاريخ العريق.

أشار الرجل الغريب إلى إحدى تلك الخرائط قائلاً.. هذه جزيرتكم على موقع earth google ثم أردف وهو ينظر في تلك المرآة.. الغريب أن (التابلت) متصل بالإنترنت ولولا ذلك لما استطعت الوصول إلى جزيرتكم بالـ GPS بعدما انتهى من جملته لاحظ على وجوههم علامات الدهشة من كلماته استدرك قائلاً: لعلي أحتاج أن أعرفكم بنفسي أولاً..

أنا مهندس من (جزيرة اللؤلؤ) التي تقع على الضفة الأخرى للبحر الوردي وقد تعاقدت شركتنا على استيراد بعض المعادن من جزيرتكم وكنت في متابعة لأحد أعمال شركتنا بوسط البحر فرأيت أنه من المناسب أن أزور جزيرتكم طالما معي (الهليكوبتر) مشيراً إلي دبور العسل الضخم الرابض على الشاطئ.. ثم استدرك.. بالمناسبة هذه صور توقيع التعاقد بين حاكمكم وحاكم جزيرة اللؤلؤ، شاهد أهل الجزيرة صور حاكمهم يقف وسط جمع من الأقزام.. مثلهم.. كما يظهر بالصور حاكم جزيرة اللؤلؤ قزما هو الآخر!

زادت علامات الاستفهام!! وبدأ أهل الجزيرة في إلقاء الأسئلة لفهم الحقائق التي نسفها هذا الزائر الليلي في دقائق معدودة.

قال كاتب القرية: لا تؤخذني لكني أراك في نفس طول أهل جزيرتنا (قزم يعني) كما أن حاكمكم في الصور قزم هو الأخر فهل أهل جزيرتكم أقزام مثلنا؟

قال الغريب في دهشة: لا لسنا أقزاماً بالطبع

قاطعه طبيب الجزيرة: الذي يشغلني هو كيف وقعتم على اتفاق استخراج معادن وجزيرتنا ليس بها أي ثروات أو معادن (وإحنا فقرا أوي زي ما انت شايف)

ضحك الغريب وقال له كيف ذلك وجزيرتكم بالفعل تصدر لنا ولباقي الجزر كثير من المنتجات؟!

قال الطبيب: نعم نعم .. تقصد منتجات قيادة قوات الدرك من مزارع الجمبري والسمك وثمار القرع المتميزة.

قال المهندس: جمبري (إيه) وقرع (إيه) !! نحن نستورد منكم الذهب والأخشاب وثمار الموالح وجلود الحمير والرمال الحمراء و.

قبل أن يكمل قاطعه عامل مصنع الطوب غربي الجزيرة: تقصد رمال الشاطئ؟

قال الغريب: نعم هذه الرمال تدخل في صناعة كل شيء تقريبا وخاصة الصناعات الدقيقة كالتابلت الذي أحمله ولوحة تحكم الهليكوبتر التي جئت بها وعدسة هذه الكاميرا وحلقات هذا المنظار الليلي وتلك الساعة الرقمية وأخذ يعدد لهم ويخرج من حقيبة ظهره أشياء غريبة وعجيبة تدخل في صناعتها رمالهم الحمراء!!

قال عامل مصنع الطوب: لكن هذه الرمال دوماً ما تفسد خلاط الطوب الكبير في مصنعنا ولا تتماسك في القوالب وتأخذ بالأفران فترة أطول من غيرها.

قاطعه الغريب: تصنعون من الرمال الحمراء طوب!!

قال العامل: لا (ده) كان زمان قبل أن يصدر حاكم الجزيرة فرماناً بالتخلص منها لتقوم إحدى شركات (جزيرة الصيادين) بإزالتها من الشواطئ وتأخذها في قوارب ضخمة لتلقيها في عمق البحر الوردي ويحكي لي جدي أن هذه الرمال هي التي جعلت منه بحراً وردياً مسمم المياه.

قال الغريب: ما هذه القصص الغريبة التي أسمعها.. أنتم لستم أقزام وجزيرتكم ليست فقيرة بل من أغني جزر البحر الوردي وهذه أخبار وصور زعيم جزيرتكم يتعاقد علي بيع منتجات وثروات جزيرتكم لجزر البحر الوردي المجاورة وجزر المحيط البعيد، واستمر في اطلاعهم على صور التابلت التي وَلَّدَت في عقولهم عشرات الأسئلة..

قال ولد صغير من الحضور: يا عم.. كيف يعمل هذا التابلت الذي تحمل وماهو هذا الإنترنت الذي يتصل به؟

قال الغريب: كيف لا تعلمون هذه الأشياء وهي موجودة في جزيرتكم بالفعل!!

بعدها انهالت عليه عشرات الأسئلة..

 لماذا سمى الحاكم جزيرتنا بهذا الاسم

وكيف وصل هذا الغريب للجزيرة بسهولة رغم أنها جزيرة ضائعة كما يخبرنا الزعيم

ولماذا يرسمنا فنانو الجزيرة في لوحات الطين على صورة الأقزام الفقراء المعوزين

ولماذا يستمر حديث ديوان الدرك عن تهديدات من الجزر المجاورة طالما أن زعيم جزيرتنا يتعامل معهم بكل هذا الود

ولماذا يظهر زعيمنا في كل الصور منحنياً أمامهم رغم أنه الزعيم الحكيم الذي يستمع الزعماء لنصائحه

بل كيف أقنعنا أجدادنا طوال هذه الفترة أن جزيرتنا مستهدفة بالرغم من ندرة الموارد والثروات

وكيف يتخلص الزعيم من رمالنا الحمراء التي تدخل في صناعة كل شيء بل كيف يُحصِّل منا الضرائب بحجة تخليصنا من سمومها على شواطئنا

وهل بالفعل مياه البحر الوردي مسممة

وإن كانت مسممة فمن أين إذا يحصل مصنع الدرك على السمك والجمبري، بل ما تفسير ظهور الجثث المسممة لبعض شباب الجزيرة التي تطفوا على سطح البحر الوردي بين الحين والآخر ولماذا ترسمهم لوحات الطين على صورة شياطين خالفوا أوامر ديوان الزعيم بعدم نزول البحر الوردي السام

ظلوا طوال الليل يُطلعهم المهندس علي الصور والأخبار وتتولد عنها الأسئلة والنقاشات – هكذا حتى الصباح – ولم يقطع حواراتهم إلا صوات منادي ديوان الزعيم يقول:

يا أهالي الجزيرة الأوفياء، الكل يتوجه من فوره إلي الميناء، لاستقبال زعيم الجزيرة المفدَّي وبعدها يفطر ويتغدي ، ويشاهد لوحات الطين ، التي رسمها الفنانون ، تخليداً لزيارة الزعيم التاريخية ، لجزيرة القطب الشمالية.

ظل فريق مع الغريب يستكملون المفاجآت ويشاهدون الصور ويسمعون الحكايات وذهب آخرون إلى الميناء البحري مهرولين لاستقبال الزعيم.

هناك في ميناء البحر الوردي الكبير ومع خيوط الشمس الأولي وصل اليخت الملكي المصنوع من الذهب والعاج والمكتوب عليه بالخط الديواني الأنيق (جزيرة الوادي الكبرى) نزل زعيم جزيرة الأقزام ليسأل مستقبليه مستغرباً..إنتوا واقفين هنا ليه..و إيه اللي صحاكو بدري كدة ؟!!

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها