تاريخنا بين التقديس والتدليس

ثمة خلل كبير يقع فيه الكثير منا عند تعامله وفهمه للتاريخ وخاصة تاريخنا الإسلامي

ويتجسد هذا الخلل في انقسام الناس حول التاريخ لثلاثة فرق  فريق لا يلقي له بالا من الأساس ويرى أنه لا يعدوا كونه مجموعة من القصص والحكايا التي لا تثمن ولا تغني من جوع، والفريق الثاني ينظر لتاريخنا الإسلامي نظرة مقدسة لا يرى فيه سوى البطولات والفتوحات والانتصارات، أما الفريق الثالث فهو فريق المدلسين والذين ولا يرون في تاريخنا سوى السوءات والعورات، لا يرون سوى الدماء  والحروب والقتال.

والحقيقة إن أكبر جريمة ممكن  أن نرتكبها ونحن نتعامل مع التاريخ أن نتعامل معه بنظرة أحادية  بتسليط الضوء على جانب وإغفال الجوانب الأخرى، لذلك سأجتهد في هذا المقال أن أضع بعض الأسس التي ربما تساعدنا على فهم  التاريخ الفهم الأمثل الذي يحقق لنا الفائدة التي نرجوها من دراسة وقراءة وكتابة التاريخ، ولكي نفهم التاريخ جيداً لابد وأن نجيب على هذه الأسئلة التي تمثل أعمدة أساسية لفهم تاريخنا.  

ما هو التاريخ؟!  لماذا التاريخ؟!  كيف نقرأ ونفهم التاريخ؟!

ما  التاريخ ؟!

التاريخ لغة هو الماضي والزمن وتعريف الوقت كما ذكر الرازي، أما التاريخ اصطلاحا فقد تعددت فيه التعريفات واختلفت فيه الأقوال إلا أن أشمل هذه التعريفات وأقربها للصواب هو تعريف ابن خلدون ”التاريخ في ظاهره هو أخبار الدول والقرون والأيام وفي باطنه تحقيق الأشياء وتعليل الكائنات ومعرفة كيفية الوقائع وأسبابها.   

لماذا التاريخ ؟!

عجيب أمر هؤلاء الذين ينظرون للتاريخ نظرة تجاهل لا مبالاة فيها ولا يعتبرونه سوى مجموعة من القصص والحكايا التي لا طائل من ورائها، والحقيقة أن هذا فهم منقوص، فالتاريخ من أهم العلوم التي يجب على الأمة إن أرادت أن تفيق من سكرتها أن تقرأه وتدرسه جيدا.  

وصدق الشاعر 

اقرأوا التاريخ إذ فيه العبر      ..   ضل قوم ليسوا يدرون الخبر

وقراءة التاريخ فيها العديد من الفوائد العظيمة التي تحتاج إليها أمتنا  وأهم هذه الفوائد

 العبرة والعظة:

 قال تعالى ”لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب”  فمن أراد العبرة والعظة والخبرة فعليه أن يقرأ التاريخ جيداً لذلك اعتمد المنهج القرآني في أكثر من ثلثه على السرد التاريخي لبعض الأحداث التي وقعت منذ خلق آدم عليه السلام  ليتعلم منها بني البشر.

الرموز و القدوات:

 فالتاريخ يبرز لنا الأبطال العظام الذين سجلوا أسماءهم بمداد من نور في صفحاته الخالدة لتقتدي بهم البشرية عبر تاريخها وتسير على نهجهم.

التاريخ ملهم الأمم:  

 ”أمة لا تقرأ التاريخ محكوم عليها بإعادته، والشواهد كثيرة فكم من كوارث وقعت فيها الأمة فقط لأنها لم تتعلم من التاريخ ولم تحسن قراءته ولذلك فالتاريخ ملهم الأمم فيه الخبرات والتجارب، وفيه عوامل القوة التي يجب على الأمة أن تأخذ بها وفيه أسباب الضعف التي يجب أن تتجنبها  لتصبح قوية وفاعلة.

كيف نقرأ التاريخ؟! 

يبقى هذا السؤال هو الأهم لمن يريد أن يفهم التاريخ فهما صحيحا لا غلو فيه ولا تفريط  ولقراءة التاريخ وفهمه جيداً هناك مجموعة من القواعد الهامة التي يجب على القارئ أو الباحث أن يسير عليها.  

أولاً القراءة الشاملة:

القراءة المجتزئة تصنع ثقافة منقوصة مشوهة،  لذلك من يريد قراءة التاريخ عليه أن يقرأه من كل جوانبه فعلى سبيل المثال عندما نتناول تاريخ دولة كالدولة الأموية أو العباسية أو العثمانية فلابد أن نسلط الضوء على ما لكل دولة وما عليها نتعرف على الإيجابيات والسلبيات نتناول كل دولة سياسياً وعسكريا وحضاريا.

ثانياً: المفارقة بين منهجية المؤرخين القدامى والمحدثين

منهجية كتابة التاريخ تختلف من القدامى للمحدثين والمعاصرين فعندما ندقق في كتابات القدامى سنجد أنهم يهتمون بنقل الأحداث مجردة دون الوقوف كثيراً على تفسيرها، كما أنهم ركزوا على نقل ما شاهدوه دون  تمحيص للأخبار لذلك نجد كتاباتهم على عظمتها لا تخلوا من الإسرائيليات والروايات الضعيفة مع تدخل العاطفة بدرجة كبيرة، على عكس المؤرخين والباحثين المعاصرين الذين يحاولون الجمع بين الروايات المختلفة بعد تنقيحها،  ويحاولون أيضاً الابتعاد عن كثرة الحشو وتكرار الروايات، كما اجتهدوا في سرد المادة التاريخية بشكل مبسط وسلس حتى لا يمل القارئ

ثالثاً: عدم التقبيح

يتعمد بعض كتاب التاريخ وخاصة من يكرهون التاريخ الإسلامي أن يظهروا تاريخنا  في أسوء الصور حيث يصورونه بأنه تاريخ كله دماء وفتن وشرور وأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف والقوة  والحقيقة هذا تزوير واضح وتدليس فاضح الهدف منه تشويه تاريخنا العريق.  

 رابعاً: عدم التجميل

كما أن هناك من يتعمدون تزوير الحقائق وتشويه صورة التاريخ، هناك فريق آخر يحاول أن يبالغ في تجميل صورة التاريخ بتسليط الضوء على الصفحات المضيئة والمشرفة في تاريخنا العظيم ويتجاهل تماماً مواطن الضعف والأخطاء التي مرت بها أمتنا وإن كان تاريخنا مليء بالفعل بالصفحات المشرفة التي نفخر بها فإن هناك أيضاً بعض الأخطاء والسلبيات التي يحتم علينا الإنصاف أن نذكرها  لنتعلم منها.  

خامساً: البعد عن المزالق التاريخية

هناك بعض الأحداث التاريخية الخطيرة التي يجب على من يقرأ التاريخ أو يكتبه أن يتعامل معها كما يتعامل الجراح الماهر مع الحالات الحرجة فعلى سبيل المثال حادث الفتنة الكبرى بين الصحابة الكرام هذا الحادث الذي كان كبار التابعين والسلف يخافون الحديث عنه وكان ديدنهم  فيه ”فتنة عصمنا الله منها فلا نخوض فيها بألسنتنا ”،  وهذا لا يعني أن لا نطلع على هذه الأحداث ولكن يجب أن نكون على حذر ونحن نتعامل معها  لأنها بمثابة مزالق خطيرة في تاريخنا.  

سادساً: التعرف على الكاتب جيداً

من الأمور الهامة والتي تساعدنا على فهم التاريخ، فمعرفة المؤرخ والكاتب وانتماءاته توضح لنا دوافع هذا الكاتب وأسباب تجميله لبعض العصور وتحامله وتشويهه لبعض العصور الأخرى فعلى سبيل المثال المثال ننظر لكتابات مؤرخي الدولة العباسية سنجد فيها تحامل وتشويه كبير لتاريخ بني أمية وتجاهل لفتوحاتهم العظيمة وهذا لطبيعة العداء بين الدولتين.

سابعاً: من أين نستقي تاريخنا

لسنا مطالبون بأن نعتد بكل ما نقرأ، ونقر بصحته، فصفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت ممتلئة بالكثير من الروايات المكذوبة والمختلقة التي لا أصل لها، ولذلك من أراد أن يفهم التاريخ  جيداً فيجب عليه أن يرجع إلى  المصادر والمراجع الموثوقة والكتاب والمؤرخين الثقات.

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها