تأملات في القرار العُمَريّ العبقريّ

لقد كان الخليفة الفاروق عمر “رضي الله عنه” موفقًا عندما اتخذ قراره الحضاري بجعل حدث الهجرة النبوية بداية للتأريخ السنوي المعتمد في دولة الإسلام الراشدة؛ فبفضل هذا القرار النير أصبحت الهجرة النبوية الحدث النبوي الأشهر بين المسلمين على مدار التاريخ، والأكثر بقاءً في ذاكرتهم مع مرور السنين.
وعند تأمل هذا القرار العمري الصائب وتحليله، نجد أننا أمام قائد حكيم مُلْهم، يفهم رسالته، ويدرك مقاصدها، ويتخذ قرارته تلبية لحاجة أمته الحاضرة مع استشراف مصلحتها المستقبلية في إرشاد الأجيال المتعاقبة نحو المعاني الأصيلة التي تحفظ كيان الأمة وتصونها من الانحراف والتردي. يظهر ذلك من بيان بعض الحيثيات التي يمكن استخلاصها من هذا القرار الخالد. ونكتفي هنا بذكر أمرين:

(الهجرةُ صناعةُ أُمةٍ) إن تخليد حدث الهجرة وجعله محطةً سنويةً لبداية العام الإسلامي ونهايته، يمثل تكريمًا وتخليدًا لحدث عظيم صنعته الأمة بجميع شرائحها وأفرادها، بدايةً من القيادة المتمثلة في الرسول (صلى الله عليه وسلم) ووزيره المقرب أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)،ومرورًا بالرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الضعفاء والأقوياء، وانتهاءً بالصبية والأطفال… لقد تحرك الجميع في تضحيةٍ فريدةٍ استجابة لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة المجتمع المسلم الذي سيصبح الدعامة الأساسية لإنشاء دولة الإسلام الأولى بالمدينة المنورة لنشر العدل والحرية والسلام في ربوع الأرض. وكأن الخليفة الملهم عمر يريد أن يلفت انتباه الأجيال المتعاقبة إلى أنّ أَوْلى ما يجب تخليده في ذاكرة التاريخ هو جهاد الأمة وتضحياتها، وأهم ما يَحتفي به الأجيال هو المنجزات الجماعية التي قام بها الآباء، وليس جهود الأفراد ومنجزاتهم الفردية حتى وإن كانت لقيادات وزعامات، لقد ظهر هذا المعنى العميق جليًا عندما لم يأخذ عمر (رضي الله عنه) بمقترح بعض الصحابة في اتخاذ يوم مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) بداية للتأريخ أو يوم مبعثه، ذلك أن هذين الحدثين -مع عظمة مكانتهما وعظيم أثرهما- لا يزالان يمثلان شخص (النبي صلى الله عليه وسلم) وحده، أما حدث الهجرة فهو يبرز أثر مولده على البشرية في هذه الرحمة التي هي للعالمين، ويؤكد على ثمار بعثته في هذه الأمة التي خيرها للناس، كما أنه يحتفي بأعظم منتجات رسالته الخالدة، في تأسيس المجتمع الفاضل وإقامة الدولة العادلة. لقد ذُكر أمام الفاروق(رضي الله عنه) في هذا المجلس الاستشاري نفسه أن التاريخ الفارسي يؤرخ له مع تولية كل ملك جديد، والروم يؤرخون من مولد الإسكندر، فزاده ذلك إصرارًا على أن يكون قراره مميزًا وشامة وضاءة للأمة دون تبعية أو تقليد، كما أراده أن يكون مَعْلمًا حضاريًا تلتف حوله الأمة في كل عام فتُقيّم أداءها الجماعي في خدمة الرسالة وتحقيق نهضتها والدفاع عن أتباعها والزود عن أوطانها؛ وذلك على معيار إنجازات الهجرة التي قامت بها الأمة في جيلها الرباني الأول.

ولا أظن -مطلقًا- أن الخليفة العادل أراد بقراره هذا أن تستقبل الأمة -الغافلة عن رسالتها، الحائرة في خلافاتها، الممزقة على موائد أعدائها، الغارقة في دماء أبنائها…- عامها الهجري في كل عام بالاحتفالات الليلية والموائد النهارية المحفوفة بالأطعمة وصنوف الحلوى، ولا بإلقاء الخطب الرنانة وإنشاد الأشعار والابتهالات الطنانة؟…

لابد من وجود الأمة الحية اليقظة حتى يكون الاحتفال بالهجرة، فإن كانت الأُمّة ثَكلى بجراحها، هامدة خاملة في مخططات أعدائها؛ فلتكن الهجرة في كل عام طاقةً حية لانبعاثها وروحًا نابضة لإحيائها، ومقومًا دافعًا لانطلاقها، وموردًا متدفقًا لعزها وفخارها.

(الهجرةُ فارقةٌ بين الحق والباطل) ذكر الخليفة عمر رضي الله عنه صراحة حيثية هامة عند قراره في اتخاذ حدث الهجرة بداية للتاريخ فقال: “بل نؤرخ بالهجرة، فإن الهجرة فرق بين الحق والباطل” (ابن الأثير، الكامل في التاريخ). وكأن الخليفة المُلْهَم يريد أن يلفت انتباه الأمة من خلال أجيالها المتعاقبة إلى الدرس الأعظم في هذه الهجرة، وهو حتمية الصراع بين الحق والباطل وضرورة التدافع بينهما حتى يأتي يومٌ يميز الله فيه الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض. لقد كانت الهجرة النبوية مرحلة فاصلة بين الحق والباطل، فبعد ثلاثة عشر عامًا من انتفاش (الباطل) زورًا وبهتانًا، واستعلائه على أتباع الحق ظلمًا وطغيانًا تحول (الحق) إلى وطن منيف أليف بَان الحق فيه وظهر، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وقد كانت الدعوة قبل ذلك تتوارى في جنح الظلام، ويتسلل دعاتها تسلل القطا من أجل تبليغ الحق والتعريف به، لقد تحول المسلمون من طائفة مضطهدة مستضعفة، استُبيحت دماؤها، وأخرجت من أوطانها إلى أمة فتية تمتلك سيادتها، وتقود دولتها بدينها تحت إمرة رسولها، لقد كانت الهجرة انتقالًا بالحق من نصر إلى نصر ومن تمكين إلى تمكين، فقلبت موازين القوى، وبعثرت حسابات البشر، وغيّرت مواقع الأوفياء الأتقياء. يقول تعالى: “وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (الأنفال،26).

 لقد كان شرف الانتماء إلى الهجرة مرهونًا بتحقق شرطها الأكبر وهو مفاصلة أهل الباطل وإعلان مقاطعتهم والتبرؤ من أفعالهم، مع الانتماء الصريح إلى الحق وأهله والزود عن حياضهم في مفارقة حاسمة لا تسمح بالمداهنة ولا المواربة؛ ولهذا لم يسوِ الإسلام -بعد الإذن بالهجرة- بين مؤمن هاجر إلى معسكر الحق بالمدينة ومؤمن لم يهاجر. يقول تعالى:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا) (الأنفال، 72) بل أوجب الإسلام يومها على المرأة المسلمة أن تفاصل زوجها الذي لم يسلم، وأن تهرع إلى الحق في المجتمع الأول بالمدينة المنورة، وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مفارقتها العاصي بن الربيع من أبرز أنواع المفارقة بالهجرة من أجل الحق. لقد أدرك الخليفة أن الأمة على مدار تاريخها ستحتاج إلى هذا النوع من الهجرة ما بقيت ممسكة بالحق مدافعة عنه، ذلك أن الباطل لن ينفك عن مجابهتها ليطفئ نور الله فيها، وليطمس معالم الهداية في أرجائها، فلتكن الهجرة هي البريق الذي يضئ طريقها نحو الحق الأبلج دون مساومة أو ملاينة، ولتكن الأمة في ثباتها وتجردها، وفي إخلاصها وتضحياتها، وفي تخطيطها وعملها القذيفة الربانية التي يفرق الله بها دومًا بين الحق من الباطل، حتى يتم وعد الله. يقول تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (الأنبياء، 18).

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها