بوادر أزمة في الأفق، بين رأسيْ السلطة التنفيذية والتشريعية في تونس

 

ثمانُ دقائق فقط، كانت كافية لتنهي الاجتماع رغم أهميته. غادر الغنوشي القصر الرئاسي  غاضبا رافضا للمبادرة وساطة رئيس الجمهورية، وسط أجواء من التنازع والخلاف في الصلاحيات بدت تلوح في الأفق بين رأسيي السلطة التشريعية والتنفيذية في البلاد .فلا يمكن في تونس اليوم غض النظر عن  سحابة الدخان المتصاعدة برائحة التنازع والخلافات الهادئة الصامتة، بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد ورئيس البرلمان الحالي راشد الغنوشي ، فالأول يعدّ الرئيس الحائز على حوالي ثلاثة أرباع أصوات الناخبين، يبدو أنه لم ولن يرضى من يحدّد له مربع تحركاته كما كان مع سالفه، مستندا في  ذلك إلى تكوينه القانوني والدستوري في تأويل خاصة الفصول 79 و80 و 93 من الدستور المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية في ترؤسه للمجلس الأمن القومي أو المجلس الوزاري أو مخاطبة مجلس نواب الشعب .

تفاصيل الخلاف

من جهته الغنوشي الذي يعتبر رجل الظل والنور الأول في المشهد السياسي منذ 2011 يبدو من خلال الرسائل التي وجهها إلى منافسيه منذ انتخابه كرئيس للبرلمان منتصف نوفمبر الماضي، لم ولن يقبل هو الآخر أن يكون كسالفه من رؤساء البرلمان السابقين والذين عادة ما اكتفوا ببعض الأدوار البروتوكولية. فالغنوشي الذي اعتاد أن يكون الماسك الأول بتفاصيل اللعبة السياسية والحابك لها فلن يقبل أن ينازعه أحد في ذلك وهو رئيس الحركة السياسية الأكبر والأكثر تنظيما في البلد.

تفاصيل هذا الخلاف ولئن بقيت منحصرة طيلة الفترة الماضية خلف أبواب الكواليس أو متسترة ببعض التصريحات والرسائل المبهمة، فإنها طفت على السطح  نهاية الأسبوع المنقضي عندما أقام رئيس الجمهورية اجتماعا حضره من حضره من رئيس الحكومة يوسف الشاهد وكبار المسؤولين والوزراء حول أزمة زيت الزيتون، ليقابله اجتماع آخر تحت قبة البرلمان برئاسة الغنوشي حول نفس الأزمة التي تعتبر مشكلا اقتصاديا زراعيا بالأساس كان من الأسلم معالجته في القصر الحكومي بالقصبة وهو ما تمليه صلاحيات رئيس الحكومة وفق الدستور التونسي ووفق الأعراف التي حكمت الممارسة السياسية والإدارية في تونس منذ الثورة .

يبدو واضحا أن هذا التنازع حول الصلاحيات لم يكن مقتصرا على اجتماعين عابرين حول أزمة زيت الزيتون في مكانين مختلفين من أهم مراكز السيادة والنفوذ في مؤسسات الحكم التونسي (البرلمان/ الرئاسة)، وإنما سبقه امتعاض مسكوت عنه من قبل رئيس الجمهورية حول الدبلوماسية البرلمانية النشيطة لرئيس البرلمان راشد الغنوشي، والذي استقبل ويستقبل بشكل شبه يومي سفراء وممثلي هياكل إقليمية ودولية، وهو الدور الذي يفترض أن يتكفل به قيس سعيد ضابط إيقاع السياسة الخارجية والقائد الأعلى للقوات المسلحة بحسب دستور الثورة؛ ليُفتح بذلك بابٌ جديدٌ قديم من الخلافات والنقاشات في تونس (فترة الرئيس السابق الباجي قائد السبسي) حول حدود الدبلوماسية الموازية والدبلوماسية الرسمية والخيط الرفيع الفاصل بينهما الذي قد نعرف أوله دون أن نعرف آخره في ظل هذه الأجواء من التوتر والاضطرابات.

حكومة الرئيس

تؤكد كل التسريبات أن قيس سعيد كان رافضا بشدة قبل أسابيع، ما يسمى بـ” حكومة الرئيس ” التي دعته حركة الشعب ( 15 مقعدا )  صراحة  إلى تشكيلها بدل حركة النهضة الحزب الفائز في الانتخابات، ليجنّب بذلك البلاد أزمة دستورية سياسية خانقة قد تمثل تهديدا لهذا المسار الانتقالي برمته، غير أن هذا الموقف السياسي الدستوري المحترم لقيس سعيد قد لا يعكس الإشارات القادمة من ربوة القصر الرئاسي بقرطاج والتي تؤكد أن الرئيس وفريق الرئيس لن يقفا عند حدود الهامش كما يريد لهم البعض، وذلك بممارسة مجرد تسميات بروتوكولية للخارجية والدفاع، وإنما تتجه النيّة إلى استغلال أقصى قدر من هامش الصلاحيات التي منحها الدستور لرئيس الجمهورية بهدف الخوض في المجالات الاقتصادية والاجتماعية سيما وأن سعيّد يعد القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس الأمن القومي  فضلا عن حقه في ترؤس المجلس الوزاري وسن المبادرات التشريعية . وهي الصلاحيات التي أشار إليها سعيّد صراحة قبل أشهر، في خطابه الانتخابي القائم على شعاريْ ” الشعب يريد ” و ” أعماق الأعماق ” والهادف لحلّ مشاكل الفقر والبطالة والتنمية وفق حلول تتجاوز شؤون الدفاع والخارجية إلى اتخاذ خيارات اقتصادية واجتماعية وتنموية وفق رؤية يسطرها الشباب والمهمشون في حزام المدن الأقل تنمية والأكثر فقرا في أعماق البلاد .فهذا التوجه لقيس سعيّد، قد تكون انطلاقته من خلال اجتماع بسيط حول زيت الزيتون ولكن لا أحد يمكن أن يجزم حدود نهايته والتي قد تتجاوز صلاحيات القصبة ( رئيس الحكومة ) وباردو (البرلمان).

الاجتماع التاريخي

لا يخفي عدد من قادة حركة النهضة في السر والعلن استياءهم واستياء رئيسهم، من الاجتماع التاريخي الذي دعا له قيس سعيد الأسبوع الماضي بعد فشل مفاوضات تشكيل الحكومة، إذ كان الغضب واضحا على ملامح الغنوشي بعد أن رأى في هذه الدعوة تدخلا غير قانوني وغير دستوري من رئيس الجمهورية في مسار تشكيل الحكومة فضلا عن كونه عصا النجاة لأحزاب ( التيار الديمقراطي وحركة الشعب ) التي تريد أن تحرجها النهضة وتحملها المسؤولية التاريخية أمام الشعب في إفشال المفاوضات في أمتارها الأخيرة.

هذا الاجتماع الذي لم يتواصل سوى ثماني دقائق فقط رفض خلالها الغنوشي مقترح رئيس الجمهورية في الوساطة كان بمثابة الحدود التي أراد أن يرسمّها الغنوشي من طرف واحد لدور الرئيس خلال الخماسية القادمة، أي لا مجال للتحرك خارج مجالي الخارجية والدفاع، فالغنوشي الذي يقود مفاوضات تشكيل الحكومة ويشرف على جلسات البرلمان ويستقبل الوفود الرسمية ويحل مشاكل زيت الزيتون لا يقبل البتة أن ينازعه أحد في صلاحيات ممارسات الفعل السياسي والتي يمكن تمتطيها أو تقليصها حسب الكاريزما والحضور وسياسة فرض الأمر الواقع بغض النظر عن النص والقانون أو عبر تأويل فصول ما من  الدستور .

التشكيك في النوايا

لا يمكن البتة التشكيك في حسن نوايا قيس سعيّد أو راشد الغنوشي في سعيهم إلى استغلال جميع صلاحياتهم ولئن اختلفا حول حدودها من أجل خدمة قضايا هذا البلد وتحقيق مطامح غالبية الشباب التونسي، ولكن فلسفة الحكم لكل منهما واختلاف الرؤى بينهما في معالجة المئات من المشاكل الاقتصادية التي أنهكت البلاد، ينذر بشبح أزمة بدت تفوق بين رأسيْ السلطة التنفيذية والتشريعية في البلاد، خاصة إذا ما أضفنا لهما التضاد الحاصل حول فلسفة مستقبل العمل السياسي خلال السنوات القادمة بين رئيسٍ هو أستاذ قانون دستوري لا يرى جدوى في تكوين الأحزاب أو وجودها بعد اليوم، وبين شيخ وزعيم تربّى منذ أواخر الستينيات على قيادة أكبر الحركات الإسلامية وأكثرها تنظيما وقدرة على المناورة في المنطقة .

إن مثل هذا الخلاف الذي نرجو أن لا تمتد بوادره أكثر، لما له من تداعيات سلبية على تجربة الانتقال الديمقراطي اليتيمة في المنطقة العربية، حتما سيكون عائقا أمام إنجاح عديد المحطات السياسية التي ينتظرها التونسيون خلال خماسية الحكم القادمة والتي تحتاج حتما إلى توافق وتكامل بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، ولعل أهمها تشكيل المحكمة الدستورية أو تمرير التعديلات الجديدة على القانون الانتخابي والتي رفض قيس سعيّد توقيعها رغم طلبات الغنوشي المتكررة خلال اللقاءات القليلة التي جمعت بينهما منذ الانتخابات.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها