بلال سلايمة يكتب: هل كان الانقلاب رصاصة تنظيم غولن الأخيرة؟

لم تكن هذه المحاولة الانقلابية الأولى التي يواجهها حزب العدالة والتنمية لكن المؤكد أنها كانت الأعنف بل والأشد خطورة على الحزب وحكومته. يتبع

تكشفت ساعات الصباح يوم السادس عشر من يوليو/تموز الجاري عن فشل انقلاب استهدف الحكومة المنتخبة والرئيس التركي أردوغان. لم تكن هذه المحاولة الانقلابية الأولى التي يواجهها حزب العدالة والتنمية؛ لكن المؤكد أنها كانت الأعنف بل والأشد خطورة على الحزب وحكومته. تميزت هذه المحاولة عن غيرها بأساليب ما عرفتها سابقاً كل المحاولات الانقلابية التي عاشتها تركيا على مدى تاريخ جمهوريتها. فعلى الرغم من شدة الإجراءات المتخذة وحجم الاعتقالات والتضييق على الحريات بعد انقلاب عام 1980 الذي قاده الجنرال “كنعان إفران” آنذاك، إلا أن عملية الانقلاب ذاتها مرت بسلاسة نسبياً نظراً لتحرك الجيش وفق تسلسله الهرمي وسيطرته على مقاليد السلطة سريعاً. هذه المرة كانت مختلفة، هجوم بالمروحيات على قيادة الأمن ومقر الاستخبارات العامة، طائرات حربية مقاتلة تقصف مقر القوات الخاصة ومحيط القصر الرئاسي فضلاً عن مقر البرلمان، وكأنما البلاد قد تعرضت لهجوم خارجي.

منذ اللحظات الأولى وجهت الحكومة اتهامها لتنظيم فتح الله غولن بالوقوف خلف المحاولة، الأمر الذي تؤكده لحد الآن المعلومات المسربة من التحقيقات الجارية مع المتورطين في تنفيذ الانقلاب. المواجهة بين الحكومة التركية والرئيس التركي شخصياً من جهة وتنظيم غولن من جهة أخرى ليست بالأمر الجديد، فالحرب التي أطلقتها الحكومة على “الكيان الموازي” الذي شكله التنظيم داخل مؤسسات الدولة شكل أحد أهم محركات ومحددات السياسة الداخلية التركية في الأعوام الخمسة الماضية. كما أن علاقة التنظيم بالانقلابات ليست جديدة أيضاً، فزعيم التنظيم فتح الله غولن نفسه كان قد أيد انقلابي 1980 و1997.

التسلل لأجهزة الدولة

بدأ تنظيم غولن الذي يعمل وفق سرية عالية بمحاولات التغلغل ضمن مؤسسات الدولة بما فيها العسكرية منذ سبعينيات القرن الماضي وفق البعض، لكن المؤكد أن منتصف الثمانينات وما تلاها شهدت حملات منظمة من قبل التنظيم لإدخال أتباعه إلى المؤسسة العسكرية تحديداً، عملية التغلغل التي أصبحت أكثر تنظيماً وفعالية مع الزمن، استطاع بها التنظيم أن يبني شبكة من الأتباع ضمن المؤسسة تعمل لصالح التنظيم ووفق أوامره بسرية وطاعة تامة، هذا بالإضافة إلى تغلغل مماثل في مؤسسات الدولة الحيوية وتحديداً القضاء والشرطة.

تغلغل تنظيم فتح الله غولن داخل مؤسسات الدولة لم يكن مجهولاً بالنسبة للمواطن التركي، فالحديث عن نفوذ التنظيم وتسلطها داخل مؤسسات الدولة أصبح من فضول الكلام منذ سنوات عديدة.

تغلغل تنظيم فتح الله غولن داخل مؤسسات الدولة لم يكن مجهولاً بالنسبة للمواطن التركي، فالحديث عن نفوذ التنظيم وتسلطها داخل مؤسسات الدولة أصبح من فضول الكلام منذ سنوات عديدة، بل يكفي الإشارة هنا إلى أن إحدى المجلات السياسية “مجلة نقطة” أشارت في عددها الصادر في الخامس عشر من فبراير/شباط عام 1987 إلى محاولات التنظيم التغلغل داخل المؤسسة العسكرية، لكن السؤال بقي يدور حول حجم التنظيم ومدى نفوذها وسيطرتها داخل مؤسسات الدولة.

نفوذ التنظيم ليس أمراً مجهولاً لدى اللاعبين الدوليين أيضاً فزعيم التنظيم فتح الله غولن والذي يدير نشاطات التنظيم يعيش في الولايات المتحدة منذ ما يقارب من 16 سنة، كما أن نشاطات التنظيم تحت عباءة التعليم والثقافة من خلال المدارس المنتشرة في أرجاء العالم أثارت حفيظة بعض اللاعبين الدوليين كروسيا التي سبق وضيقت على مدراس التنظيم.

التنظيم نفسه يعترف بكونه لاعباً أساسياً ومركزاً للقوى داخل السياسة التركية، فالمقربون منه يهاجمون الحكومة مدعين أنها تحالفت معهم سابقاً والآن تريد التخلص منهم، الأمر الذي يدفع للتساؤل إن كانت الحكومات تتحالف مع تنظيم أياً كان إن لم يكن له من النفوذ والسلطة ما يخوله تغيير موازين القوى داخل الدولة!

مع قدوم حزب العدالة والتنمية للحكم في عام 2002 بدا التنظيم لاعباً مهماً في لعبة التوازنات الداخلية، الأمر الذي أحسن استخدامه التنظيم حيث بدأ من خلال شبكة أتباعه بالإعلان عن الكشف عن مؤامرات تحاك للانقلاب على الحكومة المنتخبة التي كانت تعيش تحت وطأة الخوف من اي انقلاب يستهدفها، تم وفق هذه الدعاوي تصفية كتلة الضباط الأتاتوركيين داخل الجيش، هذه التصفيات تمت بهندسة وعناية فائقتين شملت أشخاص تبين لاحقاً ألّا صلة لهم بالمؤامرات الانقلابية، فاتحة المجال لأتباع التنظيم للصعود واستلام المناصب الحساسة داخل المؤسسة العسكرية، وتحديداً المناصب المتعلقة بالاستخبارات وإدارة شئون الضباط المسئولة عن الترفيعات والتعيينات في الجيش.

بداية النهاية

لكن السلطة تغري بالمزيد، وشهر العسل لم يدم طويلاً، فالتنظيم لم يعد يكتفي بأن يكون لاعباً وشريكاً بل أخذ يبحث عن التفرد في الحكم وإن كان من خلف ستار، وكان لافتاً في هذا الصدد تصريح لأردوغان لاحقا قال فيه “ماذا أرادوا ولم نعطهم؟” في إشارة إلى تنظيم غولن. كما أن علاقات التنظيم وارتباطاته تترك التساؤل مفتوحاً حول إمكانية أن يكون التنظيم أداة سياسية تحرك من قبل لاعبين آخرين. لقد انعدمت الثقة بين الطرفين لتبدأ بعدها المواجهة.

قام التنظيم في شباط 2012 من خلال أتباعه داخل مؤسسة القضاء باستدعاء رئيس جهاز الاستخبارات التركي “هاكان فيدان” أقرب الشخصيات لأردوغان بصفة متهم في قضية التعامل مع حزب العمال الكردستاني، الخطوة التي أَخذت على محمل الجد من قبل الحكومة واعتبرتها محاولة للانقلاب عليها.

قام التنظيم في فبراير/شباط 2012 من خلال أتباعه داخل مؤسسة القضاء باستدعاء رئيس جهاز الاستخبارات التركي “هاكان فيدان” أقرب الشخصيات لأردوغان بصفة متهم في قضية التعامل مع حزب العمال الكردستاني (المحظور في تركيا)، الخطوة التي أَخذت على محمل الجد من قبل الحكومة واعتبرتها محاولة للانقلاب عليها، فضلاً عن كون شبكة التنظيم قامت بالتجسس على اللقاءات التي عقدها رئيس الاستخبارات مع مسئولي حزب العمال الكردستاني (قبيل إطلاق عملية السلام مع الأكراد) وإيصالها للقضاء. بعد هذه الحادثة أصبح من الواضح أن الطرفين قد دخلا في معادلة صفرية.

بدأت خطوات الحكومة العلنية الأولى في استهداف التنظيم عام 2013 بما يعرف بقضية معاهد التقوية الدراسية (درسهانه) حيث أعلنت الحكومة عن عزمها إعادة تنظيم وضع هذه المقاعد قانونيا ضمن وزارة التربية. التنظيم اعتبر القضية موجهة ضده وعملية استهداف واضحة، فلطالما مثلت هذه المعاهد، التي تعد بالمئات، مصدراً للدخل المادي وكذا للموارد البشرية. فمن خلال هذه المعاهد كان يتم استقطاب الطلاب في مراحل الدراسة المتوسطة وربطهم بالتنظيم ثم إرسالهم إلى كليات الحقوق أو المدارس العسكرية والشرطية وغيرها ليتم زرعهم لاحقاً ضمن مؤسسات الدولة.

في نهاية العام نفسه، أطلق التنظيم حملة أخرى لاستهداف الحكومة من خلال حملتي 17 و 25 ديسمبر/ كانون الأول ضمن مؤسسات القضاء التركي. قضايا الفساد المتعلقة ببعض نواب العدالة والتنمية ووزرائه تم إخراجها واستخدامها سياسياً لإسقاط الحكومة برفع الشرعية عنها وجرّ قادتها إلى المحاكمات بتهم الفساد والتستر عليه. من وقف خلف ادعاءات الفساد هم مدعون مرتبطون بالتنظيم، وكذلك من نفذ الاستدعاءات كانت شبكة التنظيم ضمن مؤسسات الأمن حتى أن التحقيقات والتنصت الذي تم قبل القضية تم بسرية تامة ضمن مؤسستي القضاء والأمن حتى لا ينكشف الأمر خارج إطار شبكة التنظيم.

عادت الحكومة لتأخذ زمام المبادرة من جديد، وأخذت بـ”تنظيف” مؤسستي القضاء والأمن تحديداً من منتسبي التنظيم، كما بدأت باستهداف مؤسسات التنظيم الإعلامية (كصحيفة زمان وقناة سمانيولو) وكذلك المؤسسات المرتبطة بالتنظيم مالياً (كمجموعة إيبك القابضة)، كما أن سنة 2014 شهدت إعادة تقييم نظام الامتحانات للموظفين والكليات العسكرية، حيث تبين لاحقا من خلال التحقيقات أن التنظيم كان يسرق الأسئلة ويعطيها لمنسبيه حتى يتمكنوا من دخول مؤسسات الدولة والمؤسسات العسكرية، فعلا سبيل المثال في عام 2010 كان عدد الطلاب الذين أجابوا بإجابات تامة في امتحان الكلية العسكرية 1214 طالب في عام 2010، ليتراجع هذا الرقم إلى 2 فقط في عام 2015، وفق ملف الادعاء الرئيسي المقدم ضد التنظيم.

حالة التصعيد بين الطرفين استمرت وبوتيرة أعلى، فلم يأل التنظيم من وسيلة لتشويه الحكومة والتحريض ضدها على الصعيد الداخلي والدولي، في ما كانت الحكومة ماضية على قدم وساق لتحجيم الجميع بل والتمهيد للقضاء على شبكته داخل مؤسسات الدولة.

الجولة الأخيرة

أخذت الحكومة أهم قرارتها في هذا الصدد في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بتصنيف تنظيم فتح الله غولن أو التنظيم الموازي داخل مؤسسات الدولة كمنظمات إرهابية، بما يعنيه هذا الأمر من تبعات قانونية وحقوقية تستهدف التنظيم وشبكة أعضائه. وبدأت الحكومة بعدها خطوات للقضاء على التنظيم (الذي أصبح يصنف كتنظيم إرهابي) كان من ضمنها إعداد قوائم بأسماء المرتبطين به في كل دوائر ومؤسسات الدولة ليتم لاحقاً اتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم، ولعل هذا الأمر هو ما يفسر سرعة الإعلان عن قوائم آلاف الموظفين الذين تم إخراجهم من وظائفهم بعيد الانقلاب.

بعد تحجيم تنظيم غولن تحديداً داخل مؤسستي القضاء والأمن، جاء الدور على المؤسسة العسكرية وشبكة التنظيم داخل الجيش التركي، تم إعداد القوائم بأسماء المرتبطين بالتنظيم وكان مقرراً أن يتم اتخاذ إجراءات ضدّهم في اجتماع الشورى العسكري الأعلى القادم، والذي من صلاحياته ترفيع أو تنزيل رتب الضباط العاملين وكذا إخراجهم من الجيش.

لا شك أن تنظيم غولن قد علم بالقوائم من خلال شبكة تنظيمه داخل مؤسسات الدولة، وعلى ما يبدو فقد أخذ قراراً باستخدام  آخر بل ولعلها أقوى أوراقه في مواجهة الحكومة. فشلت المحاولة الانقلابية لأسباب لا مجال لذكرها الآن، والحكومة يبدو أنها خرجت منتصرة في هذه الجولة ايضاً واستطاعت استعادة زمام المبادرة لتستمر في حملتها المتواصلة منذ أكثر من خمس سنوات ضد التنظيم وشبكته داخل مؤسسات الدولة.

لكن الجولات السابقة مثل الحالية أظهرت أن تغلغل التنظيم وارتباطاته أكبر من المتوقع، كما أن استخدام العنف بما فيه القصف الجوي ضد مؤسسات الدولة والمدنيين في الجولة الأخيرة من الصراع أثبت أيضاً أن التنظيم لن يتورع عن أي فعلٍ في حربه مع الحكومة وأردوغان تحديداُ، ما يجعل احتمالات ردود التنظيم الانتقامية مفتوحة على مصراعيها.  

بلال سلايمة، باحث مساعد في مركز ستا للدراسات – أنقرة.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها