المولد بين الاحتفاء والأفعال

يتجلى كل ذلك في احتفائهم اليومي المهيب الدائم عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم وتذكره بجانب اسم الجلالة الأعظم (الله) في كل يوم قبل كل صلاة في الآذان والإقامة، وأثناء كل صلاة.

مع مطلع شهر ربيع الأول من كل عام هجري، يتحاور بعض المسلمين ويتناقشون حول مشروعية الاحتفاء بمولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فيرى بعضهم جوازه وضرورة الحشد والاجتماع لإحياء هذه الذكرى، ويرى آخرون أنه لا أصل له ولا دليل عليه. والناظر في طبيعة هذه المحاورات والمجادلات وما يترب عليها، يدرك أن كلا الفريقين يحتفي بالنبي صلى الله عليه وسلم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ وذلك من خلال إثارتهم لهذا الموضوع في كل عام، وجعله قضيةً يُجمع من أجلها الناس، فهذا يحتفي بالدعوة إلى ضرورة اقتفاء أثره واتباع هديه صلى الله عليه وسلم، وذاك يحتفي بالحديث عن مولده وتذكير الناس بفضله ومنزلته صلى الله عليه وسلم. وبرغم أنني لا أشك قِيد أُنملة في نوايا كلٍ إلا أنني أَلمح قاسمًا مشتركًا بين كلا الفريقين يَكْمن في المخاطبات القولية المتبادلة والأحاديث السنوية المكررة التي -غالبًا إن وُجدت- أثرت على الفعل وأضرت بالعمل، ولربما عكرت صفو الأرواح ونقاء القلوب.

 ولكن بين هذين الفريقين نلحظ صورة أخرى من الأمة أكثر احتفاءً، وأصدق حبًا، وأظهر وفاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، يتجلى كل ذلك في احتفائهم اليومي المهيب الدائم عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم وتذكره بجانب اسم الجلالة الأعظم (الله) في كل يوم قبل كل صلاة في الآذان والإقامة، وأثناء كل صلاة في التشهد، وبعد كل صلاة في الدعاء والذكر؛ مطبقين في ذلك قول الله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) (الشرح:4) قال ابن عباس: أي “لا ذُكرتُ إلا ذُكرتَ معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى: وأيام التشريق، ويوم عرفة، وفي مشارق الأرض ومغاربها”.(تفسير القرطبي). هذا هو الاحتفاء الحقيقي الذي لم يتحقق لبشر على الإطلاق منذ خلق الله السموات والأرض إلا لخير البشر وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فهو احتفاء لا يحده زمان ولا مكان، فقد تجاوز القعود والأقوال على الأرائك إلى الحركة والأفعال في ميادين الحياة، كما أنه اختلط بالعبادات والطاعات فأصبح شعارًا دائمًا لها وحقيقة ثابتة في تطبيقها وممارستها.

 ولعل هذا الهدي العملي المستمر في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم كان هو السبب في أنه لم يرد تخصيص يوم بعينه للاحتفاء به صلى الله عليه وسلم في عهد الصحابة والتابعين حتى القرن الثالث الهجري؛ وذلك لأن أهل هذه القرون الخيرة كانوا في تذكر دائم لرسولهم صلى الله عليه وسلم فعلاً قبل القول، ودفاعًا ونصرة بفهم ووعي قبل العاطفة وتعبيرات الوجدان؛ يؤكد ذلك ما رُوي عن على بن الحسين في قوله: (كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن) (الجامع لأخلاق الراوي). ولا يخفى ما يُوجبه تعلم السورة من استحضار ذهني وتَفتح قلبي، بالإضافة إلى ديمومة المراجعة وإتقان الأداء بين المعلم والمتعلم. وفي ذلك إشارة إلى أن احتفاء الأولين بالنبي صلى الله عليه وسلم -عن طريق مذاكرة سيرته- لم يكن في يومٍ عابر  خلال العام، ولم يكن سطحيًا بترديد بعض التراتيل والأقوال، كما أنه لم يكن حديثًا بين الآباء والأجداد فحسب، إنما كان حياة حية، وواقعًا متجذرًا في المجتمع، يرثه الأجيال بعز وافتخار. ثم ما قيمة يوم في العام -يتجاذب فيه بعض أفراد من الأمة أطرافًا من الأقوال والآثار في ساعة من ليل أو نهار- أمام جموع المنشغلين كل يوم خمس مرات بعد كل آذان يسالون الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم التزامًا بهديه في قوله:(من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة) (رواه البخاري). وأمام هؤلاء الذين يصلون عليه عشرات المرات في كل يوم جمعة راجين شافعته مغنمًا وثوابًا، وعاملين بقوله:(إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي) (رواه أبو داود). وأيضا أمام المواظبين على سننه وهديه صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات، وبخاصة هؤلاء الذين يحرصون على صلاة الجماعة، والذين أسهروا ليلهم واقفين مستغفرين بالأسحار سائلين الله من فضله، متبعين في ذلك خطى النبي الكريم.

وأعظم من ذلك كله أن تقوم  الأمة مثنى وفرادي بالتعبير عن صدق حبها، وصحة اتباعها له، بالدفاع عنه صلى الله عليه وسلم وعن أتباعه وحرماته أمام هؤلاء الحاقدين المعادين للإسلام ورسوله؛ ممن تجرؤوا  عليه بسبه وإهانته، والتطاول على زوجاته وأصحابه، وممن يعملون على تمزيق كيان أمته، وتشريد أتباعه، واستهداف مقدساته وتعليماته، حريٌ بهذه الأمة المكلومة في هذا الزمان أن تنفض غبار التفرق والتشرذم، وتكسر أسباب التنازع والاختلاف، فتوحد شملها، وتقوى شكيمتها، فتجتمع بأفرادها وعلمائها ومؤسساتها ودولها حول رسولها الكريم في التزام أمور أربعةٍ نجدها في قوله تعالى:(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:157). إيمان صادق لا يتزعزع، حب وتقدير لا يَخمل، ودفاع ونصرة لا تتقهقر، وطاعة واتباع بلا انحراف ولا تلون.  بهذه الأمور وحدها تسلك الأمة طريق الرفعة ويحقق أفرادها الفلاح المنشود. وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا محمد خير الأنام.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها