المشروع الحضاري في فكر مالك بن نبي

إن جوهر الإصلاح هو تغيير نفوس الشعوب، وتخليصها من موروث الاستعباد والقابلية له، وإعادة إحيائها من جديد، حتى تتفاعل مع معطيات الحضارة الأساسية

عندما تبحث أمة ما عن الحل فهذا يعني أن هناك مشكلة، وحتى يتسنى إيجاد حلول مناسبة لها يجب أن تحدد أولاً ماهية الإشكال وطبيعته. ويبرز الفارق يبن العرض والمرض ، وقد جدت الخطوب علي الحضارة الإسلامية بعد أن ظلت تقود قاطرة البشرية ألف عامٍ أو يزيد، ودب الوهن في أوصالها، حتى تقلص إنتاجها القيمي والحضاري، وما إن تفشت أعراض المرض، وطفحت آثاره حتى سعي الأئمة المصلحون في محاولة تشخيصه، والتصدي له ساعين لإنقاذ الأمة مما دهاها فقوض بنيانها حتى كاد يمحى آثاره .

بَيد أن كلمة هؤلاء المخلصين لم تتفق علي تحديد المشكلة وتشخيص الداء، فتعددت أطروحاتهم الفكرية، ومشاريعهم لإصلاحية، بعضها في الدعوة وتجديد الإسلام، وبعضها في الإصلاح السياسي، وبعضها زاوج بين المدرستين ، لكن مشروعاً حضارياً فريداً برز في منتصف القرن العشرين، علي يد عملاق الفكر الإسلامي مالك بن نبي.

مالك “المجهول في قومه ” والذي يعد امتداداً طبيعياً لابن خلدون، بحث في الظاهرة الحضارية وشغل بها عمره، وأحسن قراءة سنن التاريخ حتى تشكل في فكرة ملامح مشروع حضاري فريد ،حدّد فيه أبعاد المشكلة، وأبرز العناصر الأساسية في الإصلاح، و ترك لنا  منهجًا واضحاً في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ .

لقد استطاع مالك أن يقدم جواباً شافياً علي سؤال النهضة الذى شغل فكر الأمة سنين طويلة : لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ يجيب مالك : بأن كل حضارة إنسانية عرفتها البشرية مرت بثلاثة أطوار ، طور الميلاد، وطور الانتشار والتمدد، وطور الأفول ، وعندما ينحدر منحنى الحضارة في مجتمع ما وتبدأ شمسها بالأفول تتفشى أعراض هذا المرض.

فمشكلتنا إذن هي الانحطاط الحضاري، وكل ما تشهده مجتمعاتنا من فقر، وجهل، واستبداد، وغيره هي عوارض المرض وليست المرض ذاته، وبالتالي فحل المشكلة يمكن في الأخذ بشروط النهضة، وإعادة بناء حضارة إنسانية من جديد.

إن للتاريخ دورة وتسلسل، وحتى تأخذ أمة بأسباب النهضة عليها أولاً أن تحدد مكانها من دورة التاريخ، وتقوم بحل مشكلات الحضارة .

فمشكلة الانحطاط تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان ، مشكلة التراب، مشكلة الوقت، ولابد لهذه المحاور من إطار جامع تنصهر فيه، هذا الإطار الذى يسميه مالك المركب الحضاري ” هو الفكرة الدينية، التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ، وحتى تقوم حضارة يجب أن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها .

إن جوهر الإصلاح هو تغيير نفوس الشعوب، وتخليصها من موروث الاستعباد والقابلية له، وإعادة إحيائها من جديد، حتى تتفاعل مع معطيات الحضارة الأساسية، وأي تغيير سياسي لا يقوم علي أساس تغيير الأفراد والارتقاء بهم هو تغيير غير رشيد.

“إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة فهو لا يفكر ليعمل؛ بل ليقول كلاما مجرداً، وإنها لشرعة السماء: غير نفسك، تغير التاريخ “!

مالك الذى عالج قضية الحضارة – كما لم يسبقه إليها أحدُ من قبل – وكان ضحية فكره التقدمي، قال لزوجته وهو علي فراش الموت إنه سيعود بعد خمسة وعشرين وعاماً، أي أن مشروعه سيبرز للوجود بعد جيل كامل من وفاته، غير أنه وبكل أسف – ظل حبيس أرفف المكتبات .

إن مشروع مالك بن نبي وتراثه الفكري حقيق أن تلتفت أنظار الأمة إليه، وأن تطرحه للبحث والدراسة، وأن تتمثله سلوكاً فعلياً في واقع نهضتها إن أرادت أن تخلع ربقة الانحطاط من عنقها، فلئن كانت نهضة أو مشروع حضارةٍ فلا يُفتى ومالك في المدينة!

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها