القوا بكل محب في السجن!

هكذا الحبّ في بلدان العالم العربيّ عامّة وفي تونس خاصّة، حيث لا حقّ لك سوى الوقوع في غرام المؤسّستين العسكريّة والأمنيّة، رئيس الدّولة، زوجتك. وقد نُمنع قريبا من أن نُحبّ زوجاتنا !

قبل يومين، وفي حوار تلفزيوني له على قناة نسمة” أكد الناطق الرّسمي بٱسم قوات الحرس الوطني ضلوعَ العائلات التونسية في ما اعتبره جريمة الهجرة خلسة مؤكّدا أنّ العديد منها تساهم ماليّا في دفع أبنائها إلى ما يُعرف في تونس بـ”الحرقة“. سبق كلامه هذا، تصريح له، قال فيه مستغربا إنّ الزّغاريد تدوّي في أرجاء المنازل التّونسية كلّما وصل أحد سكّانها إلى “بلاد الحقّ”، كما يسمّيها أحد الباعة المتجولين في حيّنا حين يتحدّث عن العالم المتقدّم، بعد ساعات من الغوص في جوف بحر مظلم هربا من وطن انقلبت فيه كلّ الموازين، فصار الحق فيه باطلا والباطل فيه حقّ، والخطأ فيه صار مهجورا والصّواب مشهورا، وصار فيه المعقول جنونا والجنون أفلاما تُعرض في دور السينما على أنها فلتات إبداعيّة.
وطن يمشي رأسا على عقب، لا شيء رسميّ فيه سوى الاستهتار، كأن يسكن النّقابيّ فيه بدل الدّار قصورا، أو أن تدندن كلمات الشّيخ إمام في أعراس البورجوازيّين، كأن يصافح الضحيّة من أذاقه لسنوات تحت أقبية الداخلية عذابا كالنّار، أو أن يتربّع مختلّ على عرش وسائل الإعلام ليدير “الحوار ويصدّع رؤوسنا ليل نهار، أو كأن يصيَّر، شيخ تسعينيّ مثلا، رئيسا.
كأنّ في الأمر جنون، يتصنّع خليفة الشّيباني الدّهشة ويتفاجأ من حبّ التّونسيّين للحياة في وطن حتّى أبجديّات الحبّ فيه انقلبت، تماما كما ٱنقلبت العلمانيّة في المملكة العربيّة السّعوديّة، فصارت مع بروز محمّد بن سلمان مسخا، مقوّماتها الرّقص والغناء والمشاريع السيّاحيّة لا حقوق المواطن ولا حرّيّاته، وكما ٱنقلبت مبادئ الإعلام النّزيه في قناة العربيّة” فصارت تزييفا وافتراءً، وتحوّل الشّهيد الفلسطينيّ فيها إلى قتيل، والمحتلّ إلى مواطن، والمقاوم إلى إرهابيّ والإرهابيّ إلى أمير، وكما ٱنقلبت الحقائق في مصر فصار المجرم مواطنا شريفا، والمواطن الشّريف تحوّل إلى بلطجيّ، والبلطجيّ إلى شرطيّ، والثورة صارت انقلابا والانقلاب صار ثورة.
هكذا هو الحبّ في تونس، يُستعمل في غير موضعه، كعون أمن يخطب في النّاس يوم الجمعة بعد أن اعتلى المنبر في المسجد، كمعلّمة تتّخذ من المدرسة وفصولها مكانا تنشر فيه الإلحاد بل وتزجّ بعد ذلك بأولياء تلاميذها في السّجن، كاتّحاد عامّ تونسيّ للشّغل يعمل على تقسيم التّونسيّين وبثّ الفتنة بينهم، كقانون، هدفه العفو عن اللّصوص، كمعارض يعمل لمصلحة السّلطة، أو كشيخ من على منبر المسجد الحرام يدعو إلى طاعة عمياء للملك، ومرتزق يتقمّص دور محلّل، كأموال خليجيّة في أكياس أمريكيّة ومصريّ يصوّت ضدّ قطريّ ويصرخ أن عاشت فرنسا.
كصواريخ إماراتيّة تهوي على اليمن، ومستوطن في القدس وطائرة مصريّة تقصف أرض ليبيا، كجائزة نوبل للسلام بين يدي نتنياهو. هكذا هو الحبّ في بلدان العالم العربيّ عامّة وفي تونس خاصّة، حيث لا حقّ لك سوى الوقوع في غرام المؤسّستين العسكريّة والأمنيّة، رئيس الدّولة،  زوجتك.. وقد نُمنع قريبا من أن نُحبّ زوجاتنا ولربّما مُنعنا وقُضي الأمر، ففينا من يقبع بالزّنزانة لمجرّد قبلة، وإلى جانبه آخر، تهمته أن أحبّ فريق كرة قدم، فناله من التّعنيف نصيب قبل أن يُلقى به في السّجن، يشاركه الفراش شابّ كلً ذنبه أنّه أحبّ الفنّ فسوّلت له نفسه أن يرسم بيديه على أحد الجدران لوحة، وآخر شُغِف بالثّورة والحرّية وبصديقته السّمراء، وفي ركن من أركان الزّنزانة يجلس شابّ ملتحٍ، أحبّ اللّه فسلك طريقه فجرا نحو المسجد قبل أن تعترضه دوريّة أمنيّة كبّلت يداه.
هكذا، وكأنّ في الأمر جنونا، استغرب خليفة الشّيباني، النّاطق باسم الحرس الوطنيّ، قبل يومين، من حبّ التّونسيّين للحياة، فاستنكر زغاريد العائلات، لتقترح عليه مقدّمة البرنامج أن ألقوا بكلّ محبّ للحياة في السّجن فيجيبها أن السّجون قد اكتظّت بالعشّاق ولم تعد لنا طاقة لاستيعابهم.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها