العلامة عبد الحميد بلبع وحديثه الجميل عن يوم عرفة

كان الشيخ عبد الحميد بلبع مالكي المذهب شأنه شأن أبناء إقليمه، وبعد تخرجه عمل في الدعوة وبدأ إماما وخطيبا لمسجد ابن مسعود في دمنهور.

كان الشيخ عبد الحميد بلبع (1897 ــ 1980) لفترة طويلة بمثابة صاحب أكثر أحاديث الصباح الدينية جاذبية وعلما ،  وقد كان هذا العالم الجليل من نوابغ علماء الأزهر التقليديين الذين لم ينشغلوا بالمتطلبات الحديثة في كتابة البحوث وممارسة التأليف الأكاديمي؛ وإنما حافظوا على جذوة العلم الذي ورثوه ناصعة مشرقة، يجددون في قراءتها وعرضها من دون أن يعيدوا ترتيبها أو مقاربتها.

وربما أنه واحد ممن بلغ القمة في هذا المجالK فقد كانت أحاديث الصباح الدينية التي يقدمها في الإذاعة المصرية مضرب المثل في الإتقان والقوة والشفافية  والإبداع في التعبير عن روح الإسلام وخُلق القرآن وما ينبغي على المسلم أن يتمسك به.
نشأته وتكوينه العلمي
ولد الشيخ عبد الحميد بلبع في قرية جزائر عيسى، وتلقى تعليما دينيا تقليديا بدأه في الكتاب حيث حفظ القرآن الكريم وجوّده، ثم درس في المعهد الأحمدي بطنطا واستكمل دراسته في معهد الإسكندرية ومنه حصل على الشهادة الثانوية الأزهرية (1920) ثم في الأزهر الشريف بالقاهرة وحصل منه على الشهادة العالمية القديمة (1926).

الشيخ عبد الحميد بلبع

كان الشيخ عبد الحميد بلبع مالكي المذهب شأنه شأن أبناء إقليمه، وبعد تخرجه عمل في الدعوة وبدأ إماما وخطيبا لمسجد ابن مسعود في دمنهور، وظل يتنقل بين المساجد إلى أن أصبح مفتشا للمساجد في المحلة الكبرى (1946) ثم في الإسكندرية (1949) ثم اختير ليكون المفتش العام للشؤون الدينية في الوزارة كلها (1952) وعاصر عهد الشيخ الباقوري كله، وكان مناظراً في عمله للشيخين محمد الغزالي وسيد سابق وإن كان سابقاً عليهما في السن والتخرج.
بلغ الشيخ عبد الحميد بلبع سن التقاعد في 1962 فواصل العمل في الدعوة من خارج الوظيفة، وتفرغ للتأليف وكتابة المقالات ومع هذا فقد لمع اسمه في عصر لم يكن يُرحبّ بالكتابات الدينية إلا في أضيق الحدود.
مؤلفاته
اشتهر للشيخ عبد الحميد بلبع كتاب مهم نشر في الإسكندرية (1969) بعنوان “القرآن حياة وعصمة” وهو كما لخصه عنوانه كتاب في التربية الإسلامية وعلاقتها بسلامة المجتمع وبنائه، والدفاع الاجتماعي كما يقولون.

  وقد صاغ عنوان  كتابه كما نرى على نهج عنوان كتاب زميله السابق عليه بسنوات قليلة الأمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت : الإسلام عقيدة وشريعة.
ويتصل بهذا ما أتمه من دراسة الأخلاق الإسلامية من خلال تفسيره لسورة الحجرات، وهو تفسير مشهور، طبع بعد وفاته، ونشر في مجلة الوعي الإسلامي.
كلف الشيخ عبد الحميد بلبع بتمثيل الأزهر في زيارات دعوية متعددة حيث زار السودان (1945) وسوريا (1956) ومرة ثانية في 1957.
بالإضافة إلى أحاديثه المقررة والمشهورة في الإذاعة المصرية أذيعت بعض أحاديثه في الإذاعة الكويتية بصوت ابنه توفيق عبد الحميد.
يشتبه اسم الشيخ عبد الحميد بلبع مع اسم عالم آخر من عائلته هو الدكتور عبد الحكيم بلبع أستاذ الأدب في كلية دار العلوم والمتخرج في 1949 وقد كان هو الآخر علامة جليلا قادراً على التواصل والمحاضرة، وإن كان قد توفي مبكراً.
نموذج لأحاديثه الرصينة
يتحدث الشيخ عبد الحميد بلبع عن يوم عرفة في حديث جميل نقتطف منه مع تصرف يسير بعض فقراته الجميلة :
” في هذه الأيام المباركة التي نعيشها الآن، أيام الحج إلى بيت الله الحرام، يستجيب المسلمون لدعوة الله إلى الحج. ويلبون نداء إبراهيم الخليل إذ أمره ربه أن يؤذن في الناس بالحج بقوله: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].
“في هذه الأيام يهرع المسلمون من كل حدب ويتوافدون من كل فج إلى رحاب الله، ويجتمعون في أماكنه المقدسة ملبين وداعين لله، ذاكرين وحامدين، راكعين وساجدين، وإلى ربهم منيبين.
“في هذا الجو العبق وفي هذه اللحظات القدسية يحلو الحديث عن هذا الرحاب الطاهرة وعن هذه الأيام العظيمة الفاضلة ومنها يوم عرفة
” يوم عرفة علم على اليوم التاسع من ذي الحجة وهو مركب من كلمتين مضافتين: يوم – عرفة.

يوم: جزء من الزمان محدود، وعرفة: جزء من المكان مخصوص معين ومحدود، وقديمًا أطلق على الجزء من المكان اسم عرفة أو عرفات.
” وللعلماء في تعليل تسميته بهذا الأسم آراء: يرى بعضهم أن عرفة مشتق من المعرفة ويذكرون في سبب هذه التسمية أن أحداثاً حصلت في هذا المكان من أجلها سمي عرفة من هذه الأحداث، لما أهبط آدم وحواء من الجنة نزل كل منهما في جهة من الأرض ثم شاء الله جمعهما في هذا المكان، فاجتمعا وفيه تعارفا فسمي المكان عرفة لذلك.
 “ويرى بعضهم أنه مشتق من الإعتراف – ضد الجحود والإنكار – ذلك أن الحجاج في وجودهم بعرفات يلبون ويهللون ويكبرون ضارعين لربهم معترفين بخطاياهم وذنوبهم فزعين من جرائمهم وعصيانهم مرددين دعواتهم: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يا غفار، وفي هذا اعتراف منهم بالذنوب.
” ويرى بعضهم أنه مشتق من العرف بفتح العين يعني الرائحة الطيبة وذلك أن المذنبين لما ثابوا إلى رشدهم وفي هذا المكان المقدس تابوا إلى ربهم تخلصوا من خزاياهم وأرجاسهم وأبدلهم الله بذلك ريحاً طيبة، على حد قول الرسول في الصائم: “لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك”.

﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ  وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم لتعلن للمسلمين بما أسبغ الله عليهم من نعمة، وما أولاهم من منة بل هي أجل نعمة وأسبغ منة إذ هي إكمال الدين الإسلامي بكل ما يحتاجه الإنسان في تنظيم مجالات حياته، ورضاه هذا الإسلام دينا لهم.

“وأيًّا كان هذا التعليل فالله عز وجل جعل هذا المكان خاصاً لأداء أعظم فرائض الحج وهو الوقوف بعرفة كما يؤخذ من قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ .
“وفيه يقول الرسول صلوات الله عليه: “الحج عرفة”، فجعل الرسول عرفة الحجَّ كله مبالغة في عظم هذا الركن لما فيه من مزايا وما له من آثار عظيمة، آخر ما نزل من القرآن في يوم عرفة.
” يوم عرفة أيضاً هو اليوم الذي نزل فيه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ .

وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم تعلن للمسلمين بما أسبغ الله عليهم من نعمة، وما أولاهم من منة بل هي أجل نعمة وأسبغ منة إذ هي إكمال الدين الإسلامي بكل ما يحتاجه الإنسان في تنظيم مجالات حياته، ورضاه هذا الإسلام دينا لهم.

فأحس عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – من ثنايا هذا الإعلان بوجدانه المرهف أن أيام الرسول بينهم أصبحت قليلة ومعدودة، حيث إنه قد أدى مهمته فيهم وبلغ رسالته إليهم، فهو إذن إلى الرفيق الأعلى، وأخذته عبرة البكاء فبكى وكان الأمر كما أحس عمر إذ قد ورد أن الرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد يوم عرفة بواحد وثمانين يوماً.

تتضمن هذه الآية أمرين مهمين في دعوة الرسول  صلى الله عليه وسلم:
” الأول: يأس الكافرين من إحباط دعوته وهدم شريعته رغم ما بذلوه من محاولات وقاموا به من تحوطات واحتياطات، وفي هذا أمن الدعوة الدينية وتمكينها من الوصول إلى ما يشاء الله من أنحاء العالم كله، فما كان للكافرين أن يغلبوكم بعد اليوم فلا تخشوهم واخشون. وهذه نعمة كبرى كانت موضع أمل الرسول ورجائه.
” الثاني: إكمال هذا الدين الإسلامي بمبادئه وأحكامه وتعاليمه وتوجيهاته لتصحيح العقيدة وتربية الفرد وبناء المجتمع وتنظيم السلوك العام للفرد والمجتمع الإسلامي في هيئاته وجماعاته وله من المجتمعات الأخرى غير الإسلامية وفي ذلك ضمان الحياة الطيبة والنهوض بالأمة إلى مراقى العزة والكرامة.
توفي الشيخ عبد الحميد بلبع عام ١٩٨٠.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها