العراق.. مواجهة الدولة واللا دولة

الطائرة الأمريكية التي انزلقت على المدرج

أن السيد الكاظمي، الذي تولى رئاسة المخابرات العراقية منذ عام 2016، يدرك جيداً أن مشروع اللادولة في العراق، عميق إلى حد يفوق إمكانياته،فما الذي حصل ودفعه لمثل هذه المغامرة؟

في ليلة لم تكن عادية عاشتها بغداد، قامت قوة من مكافحة الإرهاب وقوات أمريكية ليلة الخميس الماضي، بعملية دهم لموقع تابع لكتائب حزب الله جنوب العاصمة العراقية بغداد واعتقلت عدداً من أفراد تلك الميلشيات، التي أكد بيان رسمي صدر لاحقاً من بغداد أنها كانت تعتزم شن عمليات صاروخية تستهدف مطار بغداد والسفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء المحصنة في بغداد.

وبغض النظر عما جرى من تصريحات ولغط؛ بعد تلك العملية ونزول عناصر الميلشيات إلى شوارع العاصمة بغداد فجر ذلك اليوم، والبيانات والتهديدات المتبادلة، فإن العملية بحد ذاتها كانت نادرة، بمعنى أنها الأولى التي تنفذها قوات رسمية حكومية برفقة قوة أمريكية تستهدف فصائل تعرف بالولائية، تدين بولاية الفقيه وتعترف بمرجعية المرشد الإيراني علي خامنئي.

والعملية تأتي أيضا بعد تصريحات نادرة من رئيس حكومة عراقية، مصطفى الكاظمي، هدد فيها كل جهة مسلحة تنفذ عمليات على أهداف أو مواقع تابعة للدولة العراقية أو بحماية الدولة العراقية، وهي أيضا تاتي بعد وقت قصير من تهديدات أطلقها الكاظمي أكد فيها أن حكومته بصدد إجراء تغييرات على مناصب حكومية حساسة، وأن بعض الأحزاب والقوى ربما ستفقد بعضاً من امتيازاتها ما قد يجعل من حكومته هدفاً لنيران تلك القوى السياسية والمسلحة منها.

في ظاهر الأمر يبدو أن هناك مواجهة أكبر قادمة بين مشروع الدولة ومشروع اللادولة، وبين حكومة مصطفى الكاظمي الفتية التي لم يمض على تشكيلها أكثر من شهرين، وبين قوى سياسية وأحزاب وميلشيات  شكلت طوال السبعة عشر عاماً من احتلال العراق.

السيد الكاظمي، الذي تولى رئاسة المخابرات العراقية منذ عام 2016، يدرك جيداً أن مشروع اللادولة في العراق، عميق ومتغلغل إلى حد يفوق إمكانياته، فما الذي حصل ودفعه لمثل هذه المغامرة؟

و ما يمكن تسميته، بدولة داخل الدولة، وإن شئت الدقة، فمشروع اللادولة الذي كانت تقوده تلك القوى.

لكن من يعرف تعقيدات المشهد السياسي في العراق والذي تشكل خلال السنوات السبعة عشر الماضية، يدرك جيداً أن الكاظمي أضعف من أن يخوض غمار مثل هذه المواجهة، فالرجل بالنهاية جاء كشخصية توافقية بين مختلف تلك القوى والتيارات والميلشيات، بل الأكثر من ذلك، جاء بعد موافقة إيرانية على توليه المنصب.

ومعلوم أن منصب رئيس الحكومة العراقية منذ 2003 وحتى اليوم، هو المنصب الحساس الذي يحتاج في كثير من الأحيان إلى توافق القوى التي شكلت اللعبة السياسية في العراق بعد سقوط النظام السابق، وتحديداً إيران والولايات المتحدة الأمريكية.

كما أن السيد الكاظمي، الذي تولى رئاسة المخابرات العراقية منذ عام 2016، يدرك جيداً أن مشروع اللادولة في العراق، عميق ومتغلغل إلى حد يفوق إمكانياته، فما الذي حصل ودفعه لمثل هذه المغامرة؟

منذ اللحظة الأولى لتكليف السيد الكاظمي بتشكيل الحكومة، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية موقفها منها، إذ أكدت استعدادها لدعم تلك الحكومة؛ طالما سعت لتثبيت قوة القانون وردع الميلشيات الموالية لإيران.

مظاهرات عراقية

 

وأيضا إجراء إصلاحات تتناسب مع حاجة العراقيين الذين تظاهروا في بغداد وعدة محافظات أخرى منذ أكتوبر/تشرين 2019، وهي التظاهرات التي جوبهت بقمع لم يسبق له مثيل ما أدى إلى مقتل نحو 700 متظاهر وإصابة أكثر من 25 الف آخرين ناهيك عن اعتقالات وتغييب للعشرات من الناشطين.

الكاظمي استلم العراق في ظل تفشي جائحة كورونا، وفي ظل انهيار شبه تام للقطاع الصحي ناهيك عن تدني أسعار النفط؛ التي انعكست سلباً على كافة القطاعات في العراق، حتى وصل به الحال إلى محاولة إيجاد بدائل مالية لسد العجز في رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين.

كل هذه التحديات دفعت القوى السياسية والدولة العميقة؛ إلى القبول بالشرط الأمريكية لدعم حكومة الكاظمي، خاصة وأن حكومته بدأت أولى جلسات الحوار الاستراتيجي العراقي الأمريكي منتصف يونيو والذي كان واضحاً أنه حواراً لإملاء الشروط من طرف واشنطن التي سيكون مقابلها دعم لحكومة الكاظمي.

من هنا تبدو لعبة إيران في العراق حالياً واضحة، وهي التضحية ببعض النفوذ والمكاسب التي حققتها دولتها العميقة؛ وربما التضحية حتى ببعض رموز تلك الدولة، مقابل دعم أمريكي سيحصل عليه العراق، سيصب بطريقة أو بأخرى في مصلحة طهران

للوهلة الأولى يبدو أن إيران ستخسر نفوذها في العراق، مقابل تمدد ونفوذ أمريكي من خلال المساعدات التي ستقدم لحكومة الكاظمي، وبالتالي تآكل الدولة العميقة التي تديرها إيران، نعم صحيح، ولكن علينا أن ندرك أيضاً أن إيران تدرك جيداً أن أي انتعاش اقتصادي واستقرار في العراق سيصب في خانتها أيضاً.

فعلى مدى سنوات طويلة من العقوبات الأمريكية سواء في حقبة الرئيس السابق باراك أوباما أو حقبة الرئيس الحالي دونالد ترمب، كان العراق الثقب الأسود الذي من خلاله تتغلب طهران على الكثير من تلك العقوبات، فإيران كانت تصدر جزءا من نفطها من خلال العراق للتحايل على العقوبات.

وإيران كانت تستورد باسم العراق الكثير من احتياجاتها، وكانت تسحب العملة الصعبة من الأسواق العراقية كلما احتاجت اليها، وإيران أيضا كانت تجد في العراق سوقاً مثالية لتصدير بضائعها.

من هنا تبدو لعبة إيران في العراق حالياً واضحة، وهي التضحية ببعض النفوذ والمكاسب التي حققتها دولتها العميقة؛ وربما التضحية حتى ببعض رموز تلك الدولة، مقابل دعم أمريكي سيحصل عليه العراق، سيصب بطريقة أو بأخرى في مصلحة طهران، خاصة في ظل وجود رجالات الدولة العميقة التابعين لإيران.

السؤال الأهم، هل ستقبل أمريكا بذلك، وهي التي تعرف دقائق الأمور في العراق؟ ذلك ما لا يمكن التنبؤ به حالياً على الأقل.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها