الشهر الأوّل في السَفَرِ الأوّل

كإحساس التحليق في السماء وحيدة والانتقال في الفضاء بعيدا عمّن هم سندي ودفئي وحمايتي والاتجاه إلى وراء البحر أقصى الغرب، أين أنظر وجه الله الباقي في مكان وكل زمان.

الشهر الأوّل يشارف على الانقضاء وأنا أتقفّى في أثره المعاني والرسائل والآيات، تراوغني الكلمات وتراودني المعاني عن نفسها وتحتشد العبارات في صدري وفي فكري، فلا أريد الاستعجال بالقول وبالكتابة، لكنّي في الآن ذاته لا أريد أن تسري اللحظة دون أن أمسك بالإحساس الذي تفيض به، أمسك به لأزمان قادمة، أُودعه في كلمة تحفظه لي حتّى أعيشه مرّة أخرى أنظره من زوايا شتّى.

كإحساس التحليق في السماء وحيدة والانتقال في الفضاء بعيدا عمّن هم سندي ودفئي وحمايتي والاتجاه إلى وراء البحر أقصى الغرب؛ أين أجد كتابا مغلقا تطلب صفحاته منّي الاكتشاف؟ أين أنظر وجه الله الباقي في كلّ مكان وكلّ زمان؟

ها أنا أحطّ بعد التحليق فأبصر الصاحب في غروب يُشهِدني حالَ وصولي لبلاد ليست بلادي لكنّها بلادُهُ. ثمّ ما ألبثُ أن أفقه أنّها بلادي، فأنا نفخة منه أبصره في ألسنة تختلف وأرواح تتشابه.

أبصره في طريق طويل مفتوح على الاحتمالات تسير بي خلاله سيّارة الأجرة الّتي استقلّيتُها، في شجرة ضخمة نبتت في المنزل الذّي أسكنه تمدّ أغصانها يدين تحضن القلوب المُحِبّة فتهدي أشواقها تربيته حنيّة.

شهر يشارف على الاكتمال والمشاهدة تعلّمني أنّ وقود تحليق الأمم الوعي؛ الوعي الذي يُرَى في أدقّ التفاصيل كالاحترام الصارم لإشارات المرور والالتزام برمي الفضلات مصنّفة (بلاستيك، ورق، بلور) مراعاة لسياسة إعادة تدوير النفايات التي تتبناها الدولة، واحترام مواصلات التنقّل الوقت بدقّة تصل لحدود الثواني.

شهر ينقضي فيعلّمني السير أنّ بسمة يهديها لي غريب هي الدفء الذي يسكن أعماق الإنسان وأنّي ما تركت الدفء وراء البحر مدفونا في قلوب أحبّتي.

شهر يخطّ آخر أيّامه في صفحة الزمان هامسا لي أنّ المسافة تنأى فتقترب القلوب تصدُق بعضها البعض. بُعد الديار وإن كان قاسيا لأنّه يحجب وجه الحبيب ويمنع مجالسته والشدّ على يديه ومسح دمعه ومنحه حضنا تنصهر فيه الأوجاع، فهو امتحان لصبرنا وتمحيص لصدقنا وتجلية لعمق إحساسنا واختبار لثباتنا على العهد.

في الحقيقة لا يمكن أن أقول أنّ هذا الشهر مرّ مرور البرق كسائر الأيّام التي تفلت من بين أيدينا كحبّات الرمل؛ فهذا الشهر كانت به أوقات ثقيلة بالروتين والتعب والضغط والقلق، وأخرى عريضة بالدهشة والاكتشاف وأُولاها اكتشاف “الأنا” مجرّدة إلّا من ذاتها بعيدة عن مهرب الأهل والصحب والاحتماء بجدران أرواحهم قبل جدران منازلهم كلّما ضقنا وتعبنا وضعفنا.

هنا كم يتّسع الوقت لأن تجلس وحيدا وتفكّر وتعاود التفكير في كلّ خطوة وكلّ أمر وفي نواياك وخواطرك ومشاعرك وما تريد وما لا تريد، كم يطول الزمن لتنفض الوحشة عن روحك وتؤانسها وتصاحبها وتصغي إلى ترّهاتها التي قد تتحوّل في لحظة لمشاريع عظيمة. هنا يزيد شعورك أنّك ذرّة في عالم واسع رحب مختلف متنوّع أكبر ممّا تصوّرت وأنّك بقدر صغر حجمك فأنت نقطة من نقاط لوحة تعكس صورة ثقافة خرجت من رحمها فلتكن وفيّا لكلّ جميل أودعتك وبارّا لها بأن تدفع عنك ثمّ عنها الجهل بفتح شبابيك روحك لكلّ نقطة نور تعترضك.

في السفر يكتشف المرء أنّ للكون أسفارا شتّى مفتوحة لكلّ قارئ، فهلّا قرأنا؟!

أكتب هذه الكلمات من “تلّة كاباريكا”، لشبونة، البرتغال.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها