الشركة القومية للأسمنت وقصتها مع السيسي

 
يجلس السيسي كعادته متحدثا بظهره لجمهور من اللواءات والوزراء وعدد من النواب، يضمهم جميعا حفل افتتاح مجمع صناعي في محافظة بني سويف، يعلن لأول مرة عن إغلاقه الشركة القومية للأسمنت التابعة للشركة القابضة للصناعات الكيماوية، إحدى شركات قطاع الأعمال العام، وذلك في منتصف أغسطس من هذا العام ، الأمر الذي لم تكن قد حسمته بعد في هذا الوقت وزارة الصناعة وقطاع الأعمال، فقد صرح الوزير من قبل أنه ينتظر تقريرا عن الشركة يحدد به المصير الذي ستواجهه، لكن للأسف، قضي الأمر الذي فيه تبحثان، السيسي حكم على الشركة وعلى أرزاق الآلاف من العاملين بها بالإعدام.
 
الغريب أن إعلانه هذا جاء أثناء افتتاحه مصنعا جديدا للأسمنت في بني سويف، وهو المملوك لشركة العريش للأسمنت، وهي بدورها مملوكة للقوات المسلحة
 
المصنع سيبدأ تشغيله بينما لدى مصر بالفعل طاقة إنتاجية فائضة في صناعة الأسمنت، حيث يبلغ إجمالي الإنتاج وفقاً لغرفة صناعة الأسمنت باتحاد الصناعات المصري نحو 80 مليون طن سنوياً، بينما لا يتجاوز الاستهلاك نحو 54 مليون طن إضافة إلى تصدير نحو المليون طن سنويا.
 
ودخول طاقة إنتاجية جديدة من مصنع بني سويف الذي يمتلكه الجيش (والذي يستحوذ على أراضي الدولة بالمجان، ويمتلك عمالة بالسخرة من خلال التجنيد الإجباري للشباب، وتعفى جميع أنشطته الاقتصادية من دفع الضرائب أو الرسوم، ويحصل على المياه والكهرباء بالمجان) يعني رفع الطاقة الإنتاجية للأسمنت في مصر إلى 85 مليون طن سنويا، ومع استقرار حجم الطلب سيؤدي ذلك إلى ضغط شديد على هوامش الربحية وأسعار البيع للشركات.
 
-موجة جديدة من الخسائر سيُمنى بها القطاع الخاص والاقتصاد المصري، و(سبوبة) جديدة وأرباح هائلة ستؤول حتما إلى جيوب الجنرالات.
 
الخطير في كلام (السيسي) هو حديثه العدائي بشكل ملفت عن عمال الشركة القومية للأسمنت
 
في البداية : يمٌّن عليهم بمرتباتهم ، يزعم أنها قد تصل إلى 12 أو 14 ألف جنيه (الأمر الذي نفاه بشدة عمال المصنع وقدموا وثائق تم تداولها عبر مواقع التواصل الإجتماعي تثبت أنها لا تتعدي ال4 آلاف) ، وعلى الرغم من كون الرقم الذي ادعاه السيسي يبدو منطقيا في صناعة تجلب الكثير من الأرباح، كما تشكل خطورة بالغة على صحة العاملين بها،(بالاضافة لكونها من الصناعات الخطرة والملوثة للبيئة) فالرقم كذلك يبدو متواضعا أمام غلاء أسعار كاسح يكابده المصريون.
 
إلا أن السيسي استنكر أكثر من مرة وبلغة عنيفة ما يتحصل عليه العمال، لم يستكثر عليهم فقط رواتبهم، بل تحدث أيضا بغضب شديد عن مساكنهم ، مستنكرا رؤيته (تكييفات) تعلو البنايات، قائلا بحدة: (الناس اللي هتسكن هنا، اللي شايف التكييف بتاعهم على المباني، على حساب مين؟) ثم أجاب على نفسه بانفعال : (على حساب العامل اللي هيسكن).
(يبدو وكأنه ليس من حق أي مواطن مصري غير عسكري، أو من فئات السيسي المحظية (جيش وشرطة وقضاء) أن يتمتع بأية وسيلة للراحة والمعيشة الكريمة: مساكن للعمال، وتعلوها تكييفات! ياللجريمة!
 
يؤكد السيسي أنه لن يسمح ثانية بوجود مساكن للعمال في أي مصنع سيُبْنَى مستقبلا.
 
لم يستنكر فحسب أبسط حقوق العمال في وجود مسكن آدمي بجانب مصنع لا يتواجد سوى داخل الصحاري أو بعيدا عن المناطق المأهولة بالسكان، بل رفض أيضا توفير وسيلة مواصلات تقلهم إليه! (مصنع، عماله مطالبون بأن يبحثوا عن وسيلة تسير بهم عشرات الكيلومترات ليصلوا إليه كل صباح: كيف هذا؟).
 
بالتأكيد فإن مواصفات كتلك، لا يمكن أن تصبح إطلاقا مصدر جذب لأي إنسان، خاصة مع توقع حجم الرواتب التي يمكن أن يسمح بها هذا النظام
 
وهو ما ينبئنا بأن مصنع الجيش الجديد لن يعمل به سوى مجندو السخرة، برواتب رمزية، ومعيشة قاسية داخل المعسكرات.
يزعم السيسي أن توفير أبسط حقوق العمال في تيسير وصولهم لمكان عملهم، هو ما تسبب في خسائر المصنع المتتالية، قائلا (ماينفعش نعمل مساكن لحد أو ننقل حد من بيته، كده مش هنشتغل ولا ناكل عيش).
الاقتصاديون يعرفون جيدا،و حتى المتابعون العاديون لشؤون المال والاقتصاد، أن المصانع الناجحة المحققة للأرباح هي من تجعل قضيتها الأبرز من أجل إنتاجية أكبر وساعات عمل أكثر: توفير الراحة والرفاهية للعمال.
فإذا قارننا هذا بحديث السيسي السابق، نفهم أنه يقصد بكلامه: الرفض تماما لفكرة إقامة مشروع اقتصادي يربح منه الجيش وجنرالاته، ويوفر بجانب ذلك حياة كريمة للمدنيين، أو يسهم بشكل أو بآخر في تنمية الاقتصاد!
 
وكأن السيسي آلة إذلال للمواطن المصري وتخريب للبلاد!
 
يستطرد في مزاعمه، معلنا أن الحل الوحيد للشركات الحكومية الخاسرة ليس في إصلاحها ولا إعادة هيكلتها، ولا تغيير إدارتها الفاشلة (كما هو الحال في التعامل مع المشاريع الإقتصادية في كافة الأنحاء) بل الحل في اغلاقها وبيعها للقطاع الخاص!
 
(ملحوظة: أغلب الشركات الحكومية والشركات القابضة التابعة للدولة يديرها لواءات جيش متقاعدون، يعملون بها تحت مسمى أعضاء مجلس إدارة ومستشارون، يتقاضون رواتب خيالية وبدلات وحوافز بعشرات المسميات، بالاضافة إلى حصولهم على مزايا إضافية (كالفيلات السكنية والسيارات).
لكن يبدو أن السيسي لا يعتبر هذا البذخ سببا لخسائر المصنع، ولا يعتبر كذلك الإدارة الفاشلة هي سبب الخسارة، في صناعة من المفترض أنها مربحة للغاية، لا تعتمد على تكنولوجيا معقدة، ولا تحتاج للكثير من تكاليف الإنتاج (فالأسمنت يأتي من الرمل والطَفلة والحجر الجيري، المتواجدون في الطبيعة بالأساس!) بل ينظر فقط لرواتب العمال ومساكنهم المتواضعة، ويصب عليهم جام غضبه.
وهنا تظهر بوضوح استراتيجية السيسي الدائمة في إدارته للبلاد، فوظيفته الأساسية: هي مص دماء الفقير وضخها في عروق الأغنياء!
لم يكد يمر  على خطاب السيسي هذا أقل من شهرين، حتى أعلنت الجمعية العمومية غير العادية لشركة القومية للأسمنت في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عن تصفية الشركة نهائياً بدعوى الخسائر وتآكل رأس المال.
من المرات النادرة التي صدق فيها السيسي، في أحاديثه الموجهة للمصريين، عندما قال : (أنا عذاب ومعاناة).

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها