السعادة

هل حقاً نحن بحاجة إلى السعادة المبنية على الاستقرار المادي أم أنه على كل منّا البحث عن محيط اجتماعي يشبهه وأناس يشتركون معه في اهتماماته؟ 

لطالما طفت في ذاكرتي بقصة كان أبي يرددها كثيراً وهي قصة الرجل الغني الذي كان يسمع صوت الموسيقى والضحك الصادر من بيت جاره الفقير في حين كان هو يقبع في بيته مهموماً يعدّ ويحصي ماله، وحين سأل جاره عن سرِّ سعادته قال له: أنه يحبّ زوجته ولا يملك من المال سوى قوت يومه فعلى ما يخاف؟.

ربّما.. كانت هذه القصة بعيدة كلّ البعد عن واقعنا الحالي لكنها لخّصت مفهوم السعادة واختصرته بعوامل لا يستهان بها.

لكن السؤال الملحّ هو هل هناك سعادة مطلقة؟ وهل يمكن أن يدوم إحساس السعادة في حال توافرت كل أسبابه؟ أم أنَّه إحساس لحظي يزداد وينقص بحسب الواقع الذي يعيشه الإنسان.

بالنظر إلى واقعنا الحالي وبالرغم من أن مسببات السعادة المادية باتت بمتناول الكثيرين إلا أن بحث الإنسان عن السعادة قد تزايد في السنوات الماضية كثيراً وذلك إن دل على شيء فإنما يدلّ على ازدياد معدلات التعاسة ومما لا شك فيه أن المرء يبحث دائماً عمّا ينقصه.

والغريب أنّه ما أن تصبح مسببات السعادة كالحب، السفر، المال، الأبناء، ومكان الإقامة… الخ، بين يديه حتى يجد نفسه أكثر تعاسة ليبدأ رحلة جديدة في بحثه عن سعادة أخرى.

أسميتها مسببات السعادة في محاولةً منّي للتفرقة بينها وبين مكونات السعادة والتي تنبع من داخل الإنسان نفسه حيث أنّه وحده القادر على الوصول إليها وذلك بالمعزل عن كل ظروفه الماديّة، إن استطاع أن يصل إلى سلامه الروحي والشعور بالقناعة والرضا عن نفسه وذلك ما سينعكس بدوره على محيطه الخارجي فيبدو ذلك الشخص أكثر إشعاعا وأكثر قدرة على نشر السعادة أيضاً وذلك ربما ما كان يملكه ذلك الرجل الفقير.

وككلّ المفاهيم تختلف رؤية السعادة بحسب الزاوية التي يراها منها كلّ منا ومما لا شك فيه أن عوامل كثيرة ستحدد شكل هذه الزاوية كعمر الشخص، نضجه، وضعه الاقتصادي، المكان الذي يعيش فيه، خلفيته الفكرية، والأهم من ذلك حياته الاجتماعية.

وهذا ما خلصت إليه دراسة اجتماعية بدأت قبل 75 عاماً عندما قرر مجموعة من العلماء في جامعة هارفارد دراسة مجموعة من الطلاب الذين يتمتعون بخلفيات اجتماعية ومادية واهتمامات مختلفة.

بعدما تخرج الطلاب من الجامعة، قام فريق الباحثين بتتبع حياتهم وإرسال استبيان رأي من وقت لآخر للتعرف على آخر التطورات، في محاولةٍ للتعرف على الذين عاشوا حياةً سعيدةً، والآخرين الذين لم يحظوا بما حلموا به.

الإجابة التي وصل إليها فريق الباحثين بعد كل هذا الوقت كانت: ما يجعل الناس سعداء حقاً ليس المال أو الصحة أو حتى الوظيفة الجيدة؛ ما يجعل الناس سعداء حقاً هو العلاقات الاجتماعية.

فالأشخاص محل الدراسة الذين كانت لديهم علاقات اجتماعية جيدة في حياتهم كانوا أكثر سعادةً من الأشخاص الانطوائيين، أو الذين لم تكن علاقاتهم الاجتماعية تسير على ما يرام.  

على خلاف هذه الدراسة الاجتماعية نجد دراسة أخرى وعلى مستوى أكبر تحدد معايير السعادة بمستوى دخل الفرد والأمن الاجتماعي وأمور أخرى لتضع قائمة للدول الأكثر سعادة وتكون فيها بعض الدول الإسكندنافية وعلى رأسها فنلندا على رأس قائمة الشعوب الأكثر سعادة مع مفارقة مفاجئة وهي أن هذه الدول نفسها تتصدر قائمة الشعوب الأكثر كآبة ايضاً ويستطيع الكثيرون ممن يقيمون في هذه الدول أن يخبروك عن مستوى الاكتئاب الذي تعيشه شعوب هذه البلدان.

فهل حقاً نحن بحاجة إلى السعادة المبنية على الاستقرار المادي أم أنه على كل منّا البحث عن محيط اجتماعي يشبهه وأناس يشتركون معه في اهتماماته؟ 

وربما.. كانت السعادة مختبئة فينا، متلخصة في كلمة (إنسان) في الوقت الذي نجد فيه أنفسنا تائهين نبحث عنها في الخارج، وذلك لأنها تعبّر عن ارتباط كل منا بحياته الاجتماعية بالإضافة إلى أنها تحمل كل القيم التي تمكن الشخص أن يبذر المحبة التي تنمو بداخله في كل من حوله ليصل حقاً إلى سعادته.

وفي النهاية لكلّ منّا الحق في اختيار احتياجاته من الحياة، ليكون سعيداً.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها