التفاعل الحضاري بين الإسلام والغرب

             من يقلب صفحات التاريخ، يرى بوضوح، تفاعل الحضارات فيما بينها بصور شتى، وهذا التفاعل منه الإيجابي ومنه السلبي، فالإيجابي يتمثل في كثير صور التعاون العلمي والاقتصادي والإنساني، إذ تفيد الحضارات من بعضها البعض، بل وتبني على جهود بعضها البعض، أما الوجه السلبي، فهو حاضر بقوة في التاريخ، فالصراع ووقائعه هو أكثر ما يجذب الشعوب لتدوينه وتسجيل أحداثه، ومن الملفت، في مسيرة الحضارات الإنسانية، تعايش الصراع والتعاون في الوقت نفسه، إذ تجد ثمة تعاون مهول بين حضارتين أو أكثر ، وهي تدير في الوقت ذاته صراع مرير بينها.

من أهم الحضارات التي برزت على وجه البسيطة، الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وقد تفاعلت هاتان الحضارتان فيما بينهما تفاعلا عظيما، وانتهى هذا التفاعل بميلان الكفة، بشكل غير مسبوق، لصالح الحضارة الغربية، ويُرجع بعض المؤرخين بداية التفوق الغربي إلى الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، إذ كان الصراع بين الحضارتين سجالا إلى ما قبل تلك الحملة، ومن بعدها، لم تظهر الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية قط، ورويدا رويدا أصبح المسلمون عالة على الغرب وتحت رحمته في شتى ضروب الحياة المادية، لكن وبحسب تعبير صموائيل هنجتنجتون، صاحب الكتاب الشهير صراع الحضارات وإعادة صناعة النظام العالمي، في وصفه لحال المسلم لما آل إليه أمر التفاعل الحضاري بين الإسلام والغرب، أن الشعوب المسلمة ” المؤمنة بتفوق وتميز ثقافتها …مصابة بالذهول نتيجة ضعف قوتها المادية”، ولذا، وبيمنا المسلم يعيش حالة الذهول هذه، فالغرب المتحفز للبقاء في القمة لا يألو جهدا في اتخاذ كل ما من شأنه الحفاظ على الوضع الراهن، وضمان تفوقه المادي بكل السبل المتاحة، فلقد رسم الغرب خطوط حمراء كاستراتيجيات لابد من إنفاذها لتحقيق هذا الهدف، وأول تلك الخطوط الحمراء أن تُحرم الشعوب المسلمة من أن تُحكم بالشريعة الإسلامية.

أدركت الحضارة الغربية، منذ وقت مبكر، أن المتغير الذي طرأ على تاريخ العالم في القرن السابع الميلادي، وما يزال أثره ممتدا إلى اليوم، هو دخول الشريعة الإسلامية على خط التفاعل الحضاري، فما كان منها إلا أن غيرت العالم في زمن قياسي، وأنشأت الحضارة الإسلامية، فزاحمت الحضارات الكبرى الرومية والفارسية والصينية والهندية، ثم تجاوزتها وسادت، كحضارة غالبة، واستمر ذلك الى مشارف القرن الثامن عشر الميلادي، وبعد ان تراجعت الحضارة الإسلامية عن مركز الصدارة، ما انفكت أوروبا، المتنبهة “لخطر” الشريعة الإسلامية، من بدء معركة جديدة لتضمن سؤددها على النظام العالمي، وهي معركة نزع التشريعات الإسلامية من بلاد المسلمين، وعلى رأسها الدولة العثمانية ذات الاتساع الامبراطوري، آخر معاقل الحضارة الإسلامية وأحد أهم أركانها، طبعا كان ذلك يتم بشكل انسيابي مع النهضة الأوروبية التي أسست لنظام العائلة الأوروبية بمعاهدة ويستفاليا 1648 التي ارتكزت على فصل الدين (الكنيسة) عن الدولة.

عندما نطالع التاريخ، وتحديدا تاريخ الدولة العثمانية وصراعها مع الغرب، نجد أن أهم ما ركز عليه الغرب هو علمنة الدولة العثمانية وتجريدها من التشريعات الإسلامية، فعلى سبيل المثال، لم تسمح الدول الغربية للدولة العثمانية بالانضمام إلى العائلة الأوروبية، التي توسعت تدريجيا لتصبح عائلة دولية، بعد توسعها خارج أوروبا، إلا بتوقيع الدولة العثمانية على معاهدة باريس 1856م، التي قبلت فيها بتغيير بعض شرائعها وقوانينها، فضعف الدولة العثمانية أجبرها على التحالف مع بريطانيا وفرنسا وسردينيا لمواجهة روسيا في حرب القرم التي نشبت في 1853م، وكان ثمن ذلك اعتراف السلطان العثماني بالمساواة التامة بين جميع رعاياه على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وهنا اصبح لغير المسلم نفس الحقوق التي يتمتع بها المسلم في الدولة العثمانية، وأعلنت الدولة العثمانية قبول مبدأ التحكيم في حالة وقوع خلاف بينها وبين غيرها من الدول، وكان هذا النص متسقا مع القانون الدولي الناشئ على يد أوروبا، وأقرّت معاهدة باريس امتيازات فرنسا في الأماكن المقدسة المسيحية دون غيرها من الدول، وأضفت عليها الطابع الحقوقي الدولي، حيث إن الامتيازات في السابق كانت نابعة من التعاقد الثنائي بين الدولة العثمانية ذات السيادة على هذه الأماكن وبين فرنسا منفردة، لتفتح الباب أمام الغرب للتدخل في شؤونها الداخلية باسم القانون الدولي، ويُعد كل ذلك اخضعا لقوانين الدولة العثمانية المستقاة من الشريعة الإسلامية لقوانين العائلة الأوروبية، وبالرغم من قبول العثمانيين لكل ما سبق، فقد ظل بعض فقهاء القانون الدولي في الغرب “يشككون في صلاحية الدولة العثمانية للتمتع بقواعد القانون الدولي ما دام القرآن باقيا بيد العثمانيين لأنه سيظل حائلا لهم دون التعامل مع العالم الخارجي”، على حد زعمهم.

وفي مرحلة لاحقة، تفتقت الذهنية الغربية عن استراتيجية جديدة لاستمرار سيطرتها وتحكمها في عملية التفاعل الحضاري، فإلى جانب العلمنة فلابد من التجزئة، فعملت على اسقاط الدولة العثمانية وما أن تم لها ذلك أقامت على أنقاضها الدولة التركية ذات النزعة الطورانية، وعلى أُسس علمانية صرفه ، إلى جانب عشرات الأقاليم التي خضع معظمها للاستعمار ثم نالت استقلالها كدول ذات سيادة هشة، إذ استخلفت الدول المستعمرة عليها قيادات قومية علمانية منفصلة عن شعوبها ومرتبطة بالدول الاستعمارية، إما بإرادتها أو بحكم الواقع الدولي وهشاشة البنية التي قامت عليها هذه الدول، مما يُلجئها دوما للمستعمر، وهذا أخل بشكل كبير بسيادتها، وهنا بات واضحا أنه الى جانب الخط الأحمر المتمثل بعدم السماح للشعوب المسلمة بأن تُحكم بالشريعة الإسلامية، ظهر خطان أحمران جديدان، الأول عدم السماح لهذه الدول بالتمتع بسيادة أو استقلال حقيقي، والثاني عدم السماح لهذه الشعوب بالوحدة تحت قيادة سياسية واحدة، أي خضعت هذه الدول لثلاث استراتيجيات، اعتبرت خطوط حمراء يمنع المساس بها أو تجاوزها عندما تمارس الدول المسلمة علاقاتها الدولية وترسم سياساتها الخارجية، وهي العلمنة والتبعية والتجزئة.

ما سبق، بطبيعة الحال، لم يضع حدا لعملية التفاعل الحضاري، فبالرغم من هيمنة الحضارة الغربية إلا أنها واجهت مشكلة، ذات جذور محلية، عند تعاملها مع العالم الإسلامي، وتتمثل تلك المشكلة في أن أحد أهم مرتكزات قيام الحضارة الغربية المعاصرة هو الشعب، فمصطلح الشعب مصطلح حديث في الأدبيات السياسية، برز مُنذ ما يقرب المائتي عام، إذ أنيط الشعب، في فلسفة الغرب السياسية، بدور أساس في نُظم الحكم للمجتمعات الغربية، التي باتت تُعرف بالديمقراطية، فلقد ارتكزت الديمقراطية على مفهوم الشعب وتطورت الديمقراطية لتجعل من رأي الشعب وممثليه، الكلمة الفصل في اتخاذ القرارات الجوهرية، التي يحتدم حولها الصراع بين النُخب ذات النفوذ في المجتمعات الغربية، وغدا ذلك معيارا أساسيا للديمقراطية التي يروج لها الغرب على مستوى العالم، باعتبار أن الديمقراطية رسالة الغرب “المتحضر” لشعوب العالم “المتخلف”، إنها النسخة المعاصرة لما عُرف بـ”عبء الرجل الأبيض” التي اجتاح بها العالم إبان الحملات الامبريالية، ولقد عبر عن ذلك بكل وضوح الرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن إذ قال في خطاب له عن نشر الديمقراطية في العالم العربي مبتدأ بغزو العراق بالقوة “إن الحرية التي نحملها ليست هدية أمريكا للعالم، إنها هدية الله للإنسانية”، معتبرا نفسه في مهمة مقدسة.

وتكمن مشكلة الغرب، في أن تطبيق المعيار المتعلق بدور الشعب في الدول المسلمة، بالرغم من أنها معلمنة ومجزأة وتابعة، سيؤدي إلى إعادة الشريعة الإسلامية الى سدة الحكم من باب الديمقراطية، باعتبار أن ذلك يمثل إرادة الشعوب المسلمة، وبطبيعة الحال فإن اتباع التعليمات الأساسية للشريعة الإسلامية سيفضى إلى استعادة سيادة ووحدة الدول المسلمة، أو ما اشتهر بالخلافة الإسلامية.

تجد التصور أعلاه، بالرغم من صعوبة هضمة لدى غالبية الوسط الثقافي في الدول المسلمة، لأسباب واقعية وأخرى تتعلق بالهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون اليوم، تجده واضحا وضوح الشمس لدى صناع القرار والنخب الفكرية والإعلامية في الغرب ، فعلى سبيل المثال كتب أستاذ القانون بجامعة هارفارد نوح فيلدمان كتابا بعنوان “سقوط وصعود الدولة الإسلامية” صدر في العام 2007، أكد فيه أن الصعود الشعبي للشريعة الإسلامية يمكن أن يؤدي الى خلافة إسلامية ناجحة، ويرصد فيلدمان، في كتابه هذا، ظاهرة قوية ومتنامية من المغرب إلى إندونيسيا، وهي أن الشعوب المسلمة، تطالب بعودة الشريعة الإسلامية، وخصوصا في دول ذات التعداد السكاني الكبير مثل مصر وباكستان، وأصبحت هذه المشكلة بمثابة مأزق تواجهه سياسات الحضارة الغربية تجاه الحضارة الإسلامية، فاضطر حملة الحضارة الغربية ومن يذود عن حياضها إلى وضع خطا أحمرا جديدا، وهو أن تُحرم الشعوب المسلمة من حق اختيار زعمائها بحرية، لأن اختيارها الحر سيقود بشكل مباشر أو غير مباشر الى إقامة الشريعة الإسلامية، وهذا، ربما، يفسر لنا الحال الذي آلت اليه الثورات العربية طوال القرن المنصرم وحتى اليوم، ويكشف لنا فشل كل المحاولات الجادة لنهضة أي بلد مسلم لاسيما في العالم العربي، وربما يبين لنا سر المحاولات الحثيثة لإعاقة مسيرة التنمية والازدهار بدولة تركيا، هكذا تتفاعل الحضارات، وهكذا حال التفاعل بين الحضارة الإسلامية والغربية، وهنا يتضح أن أي استراتيجية لمعالجة الهزيمة الحضارية التي يعيشها المسلمون اليوم لابد وان يقوم على سياسيات تواجه الخطوط الحمراء التي فرضتها السياسة الدولية على واقع المسلمين اليوم، فلا مكان للعلمنة ولا للتجزئة ولا للاستبداد.  

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها