البداية مع “نبيهاليا”

يحكي فيلم “البداية”، إحدى روائع مخرج الواقعية صلاح أبو سيف، بداية فكرة التسلط والديكتاتورية، كيف نشأت، وكيف يمكن مقاومتها والقضاء عليها.

تعطلت طائرة ركاب صغيرة في الجو، فاستطاع قائدها أن يهبط بها في الصحراء بالقرب من إحدى الواحات المصرية، وبالرغم من نجاة جميع ركابها، فإن الطائرة ما لبثت أن انفجرت، وأصبحت أثرا بعد عين، ولأن المنطقة معزولة تماما عن العمران، اضطر الركاب إلى أن يتأقلموا مع هذا الوضع الجديد، ويصنعون لهم مجتمعا صغيرا، يعيشون فيه داخل تلك الواحة الخالية من السكان، إلى أن يأتي أحدهم ويعيدهم ثانية إلى ديارهم.

وبخلاف طاقم الطائرة والمضيفين، كان من بين الركاب، أستاذة جامعية ورسام كاريكاتير، ورجل أعمال، وصحفية، وبطل ملاكمة، وفلاح، وراقصة، وطفل صغير، كان في طريقه للاشتراك في مسابقة للسباحة.

وبينما هم يحلمون ببناء مدينة فاضلة، يستمتعون فيها بحياة هادئة وسط الطبيعة البكر، استطاع أحد الركاب، وهو رجل أعمال انتهازي، أن يسيطر على الواحة ويطلق عليها اسم “نبيهاليا” تيمنا باسمه “نبيه”، بل ويتسلط على أهلها “زملائه من الركاب”، بفضل أطماعه وجبروته، والسلاح الذي كان يحمله معه على متن الطائرة.

يحكي فيلم “البداية”، إحدى روائع مخرج الواقعية صلاح أبو سيف، بداية فكرة التسلط والديكتاتورية، كيف نشأت، وكيف يمكن مقاومتها والقضاء عليها، الفيلم الذي تم إنتاجه في العام 1986 م، وحصل على جائزة أحسن فيلم في مهرجان “vivid” بسويسرا، وربما فطن المسؤولون في الدولة المصرية لفلسفته العميقة، ورسالته التي يحملها بين مشاهده.

الفيلم يقدم لنا ببساطة، “روشتة” التخلص من الاستبداد، وذلك على لسان الشاب الثوري المثقف “عادل”، فنان الكاريكاتير، الذي يقوم بدوره الفنان الراحل “أحمد زكي”، حين أوضح لأهل الواحة أنه ما كان المستبد ليظلمهم لولا خضوعهم له وصمتهم على ظلمه.

وأقنعهم بضرورة الثورة على «نبيه بك» رجل الأعمال الانتهازي، والذي يقوم بدوره الفنان “جميل راتب”، وأبدع “صلاح أبو سيف” (كاتب قصة الفيلم ومخرجه) في رسم لوحة ساخرة، تبرز صورة الديكتاتور في كل وقت وأوان، حين حكم الواحة مستغلا قوته وجهل أهلها، فأذلهم وسخرهم لخدمته وتحقيق أطماعه ورغباته، في مقابل 7 تمرات يوميا لكل منهم.

واستغل الدين لإقناع الجهلة منهم أن الله هو من أعطاه الواحة، وأن كل ما فيها من شجر وماء وهواء وحتى التراب هو ملك له، والاعتراض على ذلك، هو اعتراض على حكم الله، وأن الديمقراطية كفر، وأن المثقف الثائر “عادل” ملحد.

ويبقى المذهل والمثير في هذا الفيلم، هو ذلك التشابه العجيب بين نموذج المستبد الذي حكم واحة “نبيهاليا” بالصدفة البحتة معتمدا على سلاحه، وجهل أهلها (ركاب الطائرة)، وبين المستبد الذي يحكم المصريين اليوم، تشابه ملفت في المواقف والعبارات، يُحدث “نبيه بك” أهل الواحة، عن قدراته العجيبة على تحويل تراب الواحة ذهبا، واعدا إياهم ببناء مشروعات ضخمة على أرضها، ما بين مصانع تمور، وفنادق كبيرة، لم يكن ينقصه سوى أن يقول لهم “ربنا خلقني طبيب، طبيب أوصف الحالة، ثم يأمرهم ببناء منزل ليعيش فيه وحده، قائلا لهم : “أنا فكرت وخططت، وحين يقترح عليه عادل أن يشاركوه في التخطيط، يقاطعه قائلا : “مش مطلوب منك تفكر، أنا بس اللي أفكر، وكأني به يقول : “اسمعوا كلامي أنا بس، ماتسمعوش كلام حد تاني.

وحين اشتكى له أهل الواحة، من أن 7 تمرات لا تسد جوعهم، وأن لديه مخازن ممتلئة بالبلح، هم من يجمعونها له، قال لهم: “الجوع صحة، كثرة الأكل تسبب التخمة”، وكأني به يقول: «هنجوع؟! .. إيه يعني ما نجوع .. المهم نبقى كده».

وكعادة أي ديكتاتور، استغل “نبيه بك” الصحافة في تفريغ طاقات أهل الواحة، وكذلك في خداعهم وتضليلهم بواسطة الصحفية المنافقة “شهيرة، والتي تقوم بدورها الفنانة “صفية العمري”، كما استعان بالقوة البدنية للملاكم “صالح”، فنصبه “جنرال”، يفرض النظام وينفذ أوامره بالقوة بين أهل الواحة، في إشارة لدور الشرطة في حماية الديكتاتور، وهو ما حدا ببقية الركاب لإطلاق لقب “كلب البيه” عليه .

لم ينس المخرج المتميز إظهار دور الإعلام في تغييب العقول، من خلال مشهد رائع، يصمم فيه “عادل” نموذج محاكاة لقنوات “التليفزيون المصري” من أجل تسلية وإمتاع “نبيه بك، وإضافة إلى عبقرية الفيلم وعمق رسالته، تظهر روعة الأغاني وإبداعها، والتي صنعت بدقة لتخدم مضمون الفيلم، ومنها أغنية “هيلا هيلا”، والتي تقول كلماتها:

هيلا هيلا.. هيلا هيلا.

مع بعضينا تهون الشيلة

هيلا هيصة.. وهيلا هيصة

سكتنا طويلة وعويصة

هيلا هوبة.. وهيلا هوبة

 ابنوا وبكرة هتاخدوا البمبة

 

**بتقيموا البنيان بعرقكم

وبتشقوا في الشمس الحامية

وبتبنوا بيت اللي سرقكم

وحكمكم بالصدفة العميا

 

**طول عمرنا كدة خيرنا لغيرنا

نبني لناس تحصدنا وتجني

ناس ظلمة تكسر مناخيرنا

ونعيش عمرنا ضهرنا محني

 

** هيلا هيلا وف عز شقانا

بإيدينا بنينا وعلينا

والأجرة تمرة عدمانة

وكمان مستكترها علينا

 

ولا ينتهي الفيلم إلا بوضع خاتمة طبيعية للاستبداد، بعد رحلة من الإذلال والإنهاك والتجويع، يقتنع الركاب أخيرا  -أهل الواحة- بضرورة الثورة على حاكمهم الظالم، يقررون عمل انتخابات لمن يريدونه رئيسا، ولم تفلح إغراءات وتهديدات “نبيه بك” عن اختيارهم لـ الرسام “عادل،  إلا أن تسامحهم مع المستبد (الخطأ الذي يودي بحياة أية ثورة)، جعلت «نبيه بك» يعود ليلا،  ليحاول قتل “عادل” وحرق الواحة بأكملها، فينجح في إحراق المنزل الذي تعبوا في بنائه، وإصابة “عادل” بجروح، ثم يكلل المخرج رسالته في الفيلم بمشهد الخاتمة، حيث أهل الواحة مستغرقون في حزنهم على ما أصابهم، فتأتيهم طائرة الإنقاذ، عليها قائد طائرتهم المحطمة، والذي ظنوا أنه تاه في الصحراء، وهو يبحث عن منقذ لهم، فيركبون جميعا معه، ويتركون “نبيه بك” وحده، يعيش ويموت في واحته التي طمع بها، ليكون هذا عقابه على ما اقترفه من ظلم بحقهم، وينتهي الفيلم بنظرات المستبد المتحسرة وهو في الأسفل، صوب طائرتهم المحلقة في السماء،

وتتحقق سنة الله في أرضه، بسقوط الباطل أخيراً، مهما علا وارتفع.

وإن غدا لناظره قريب.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها