الإصلاحية الشيعية المغيّبة

أحد أنصار حزب الله وحركة أمل في لبنان يلقون الحجارة أثناء الاشتباكات مع المتظاهرين المناهضين للحكومة في بيروت

التاريخ: يوميّ الأحد والإثنين 24 و 25 من نوفمبر/تشرين ثاني 2019.

المكان: “جسر الرينغ”، وشارع “مار مخايل”، وشارع “مونو” في منطقة الأشرفية، شرق العاصمة بيروت.

الحادثة: سلسلة هجمات مسلّحة بالهراوات والأسلحة البيضاء شنّها مناصرون لحزب الله وحركة أمل، ضد المتظاهرين المطالبين بإسقاط النظام الطائفي ومنظومة الفساد في لبنان.

ورافق الهجمات أعمال تكسير لزجاج السيارات وتحطيم لواجهات المطاعم والمحال التجارية وسرقة محتوياتها، وطرق لأبواب المنازل في بعض الشوارع ليلاً، وحرق لخيم المتظاهرين في ساحتيّ الشهداء ورياض الصلح.

وصاحب الأعمال الهمجية تلك، وهو الأخطر، هتافات مدوية تُردّد عبارة:

“شيعة! شيعة! شيعة!”

هكذا هتفوا، وهكذا كتبوا على جدران بعض شوارع بيروت، ثم رحلوا بدراجاتهم النارية، ماريّن على خطوط التّماس التاريخية السنية-الشيعية في طريق “قصقص”، والمسيحية-الإسلامية في الطريق بين الشياح وعين الرمانة.

فعلوا ما فعلوا، وذهبوا تاركين خلفهم مسؤولية أخلاقية كبيرة وثقيلة الحمل، بعد إساءتهم الى صورة طائفة بأكملها. وتركوا خلفهم أيضا، واجبا أخلاقيا ما عاد يقع على عاتق المثقف الشيعي الوطني فقط في ظل الظروف التي يمر بها لبنان اليوم.

بل على عاتق أي وطنيّ منصف في موقع يستطيع التعبير فيه والتأثير عبره، بغض النظر عن قناعاته الدينية والمذهبية والسياسية.

ردات الفعل على الحادثة:

اشتعلت على إثر حادثة الهتافات الطائفية-المذهبية (التي تكررت بالطريقة نفسها يوم السبت 6 من يونيو/حزيران الجاري بالتزامن مع المظاهرة الحاشدة في ساحة الشهداء) محطات التلفزة والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، واجتهد المتابعون في قراءتها وتفسيرها كلّ حسب موقعه ووعيه وثقافته.

فالبعض فسرها على أنها حملة شيعية للدفاع عن لبنان في وجه “الفوضى” التي تسبب فيها المتظاهرون. والبعض الآخر فسرها على أنها تعبير عن موقف ومزاج شيعي عام، وبأن تلك العبارات التي رددها الفاعلون سيخلدها التاريخ كوصمة عار على الشيعة في لبنان.

 الاختبار الذي تمرّ به الثقافة السياسية للبنانيين منذ أكتوبر  الماضي، وكلما اقترب اللبنانيون من هدفهم في تأسيس هوية وطنية ومدنية للبنان،استشعرت الطائفيات السياسية والدينية، خطر ذلك عليها، فأسعرت التجييش الأيديولوجي وكثّفت جرعات التعبئة الطائفية، وضاعفت أعمال العنف وخطابات التهديد

بينما قرأ آخرون الظاهرة كما يجب، وبشكل منصف وواقعي، فاعتبروا تلك الفئة من الشباب البلطجي ضائع الهوية الذي ردد تلك الهتافات فئةً همجيةً لا تعبّر بتاتاً عن واقع وثقافة الطائفة الشيعية بجميع فئاتها وأطيافها، وإنما تعبّر عن نفسها، وعن الثنائي الشيعي، المهيمن بوسائل الترغيب والترهيب على المشهد السياسي والديني للطائفة.

محنة المثقف الشيعي:

بعد تلك الأحداث، توجّهت أنظار المتابعين للحادثة والمتأثرين بالواقع الطائفي أول ما توجّهت الى “المثقّف الشيعي” الوطني المستقلّ أو المستقيل من الحياة السياسية (بفعل غياب التعددية السياسية داخل الطائفة الشيعية) قبل أن تتوجه الى الأطراف السياسية المسؤولة عن الحادثة، مترقّبة بشغف رأيه وقراءته للمشهد، ومنتظرة جرأة -غير مبالية- منه في الاستنكار ورفع الصوت في وجه الفاعلين ومن خلفهم.

لكن ذلك المثقّف الوطني، وعلى الرغم من اعتزاله الاختياري، والقسري (في معظم من الأحيان)، للحياة السياسية، وشعوره بالسأم والملل من تكرار التعبير عن موقفه عند كل حادثة شبيهة (أحداث 7 من مايو/أيار 2008) تمسّ الصورة العامة للطائفة وتسيئ إلى قيمها الحضارية، والى الإرث الشيعي الإصلاحي، فإن حسّه الوطني وشعوره بالمسؤولية الأخلاقية وفهمه للواقع السياسي والاجتماعي للطائفة يدفعونه مجددا للتعبير عن غضبه ورفع صوته عاليا.

وهذا على كل حال وجه آخر لمحنة المثقّف الوطني، التي تحدّث عنها المؤرخ والباحث اللبناني الدكتور وجيه كوثراني بحرقة في كتابه (فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه).

فالكاتب أو الباحث الناقد الخارج من الجسد السياسي للطائفة برغم كونه أو اعتباره استثناء “وهامشا للمتن، أو تعليقا عليه” بعبارة كوثراني، فإنه مع ذلك يظلّ معرّضا للتوظيف في البروباغندا السياسية -في بلد مثل لبنان- مرتين ومن طرفين اثنين، مرة من طرف أكثرية طائفة أخرى منافسةٍ، تستخدمه بهدف التحريض ضد خصومها باعتباره المثقف الناقد من داخل الطائفة الخصم (كما فعلت كتلة الحركة الوطنية والإسلامية في الحرب الأهلية مع “المثقفين المسيحيين”)، ومرة أخرى من طرف أكثرية طائفة المثقف الناقد، باعتباره برهانا لخصوم الطائفة على الحالة اللاطائفية والتعددية القائمة في الطائفة (كما فعل السيد حسن نصر الله حين استخدم “المثقف الشيعي” دليلا على لا طائفية الحزب والبيئة التعددية في الطائفة).

تعكس شعارات مثل “شيعة ” والسلوكيات الهمجية، المستفزة والمتكررة،  مرحلة متقدّمة من حالة التردي السياسي والإفلاس الأيديولوجي الذي وصلت إليه الشيعية السياسية الحالية في لبنان

الإصلاحية الشيعية المغيبة:

ومع الاختبار الذي تمرّ به الثقافة السياسية للبنانيين منذ أكتوبر العام الماضي، وكلما اقترب اللبنانيون أكثر من هدفهم المنشود في تأسيس لبنان جديد، تكون الهوية فيه وطنية ومدنية (لا شيعية ولا سنية ولا مارونية).

استشعرت الطائفيات السياسية (والدينية)، لا سيما الشيعية منها، خطر ذلك عليها، فسعرت التجييش الأيديولوجي وكثّفت جرعات التعبئة الطائفية، وضاعفت أعمال العنف وخطابات التهديد للحؤول دون تأثّر قاعدتها الجماهيرية بالثقافة الوطنية الجديدة الضاربة جذورها في الأصل لدى الشيعة في تاريخهم الذاتي، الإصلاحي والتحديثي، الذي قطعت معه الشيعية السياسية الحالية وحاصرته وغيّبته!.

ومن رموز ذلك التيار الإصلاحي السيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد محسن الأمين، والشيخ محمد جواد مغنية، والسيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهم.

فذلك التيار الإصلاحي، كان على عكس تيار اليوم، قد وضع التشيّع داخل إطار الثقافة الإسلامية العامة، ونظر إليه كموقف إنساني لا يحمل في داخله، بتعبير الإمام موسى الصدر، “رائحة الفئوية المذهبية والانفصال عن الأمة”.

بل كان يعبّر بحسب د. كوثراني عن “حالة ميثاقية لبنانية معتدلة، لم تدعُ الى دولة إسلامية، ولا حتى إلى حزب سياسي إسلامي وولاية عامة، وإنما اكتفت بالدعوة الى الإصلاح الديني وإلى دولة مدنية”، الى جانب المطالبة، في ذلك الوقت، بحقوق الشيعة، لكن تحت مظلة الدولة الوطنية وفي ظل تركيبتها. ثم ما لبث ذلك التيار أن أوصى الشيعة، على لسان الشيخ محمد مهدي شمس الدين، “بأن يندمجوا في أوطانهم كمواطنين. وأن يتجنّبوا شعار حقوق الطائفة والمطالبة بحصص في النظام، على أن تعترف الأنظمة التي تضم مجموعات متنوعة، بالهوية الدينية والمذهبية لكل مجموعة من المجموعات”.

كما تبنى هذا التيار الإصلاحي خطاب التقريب بين المذاهب الإسلامية والدعوة “بصدق” إلى التعايش بين اللبنانيين والتذكير في المحافل والمناسبات والأزمات بالقيم الروحية المشتركة بين الإسلام والمسيحية، قاعدة لتعزيز أواصر اللحمة والترابط فيما بينهم والتحذير من تسلط الطوائف على بعضها.

لبنان بحاجة للاتحاد و الوصول إلى الفئات الشبابية التي فقدت قدرتها على التمييز ما بين الإرهاب والمقاومة والطائفية والوطنية، واستقطابها مجددا، وخصوصا تلك الفئة من الشباب ضائع الهوية الذي دفعته الظروف الاقتصادية الصعبة للانتماء والتعصب الأعمى إلى أحزاب متطرفة

لبنان إلى أين؟:

تعكس شعارات مثل “شيعة. شيعة. شيعة” والسلوكيات الهمجية، المستفزة والمتكررة، التي كان آخرها ما حصل في تظاهرة الأمس وسط بيروت من شتم للسيدة عائشة والصحابة من قبل مناصري الثنائي الشيعي، مرحلة متقدّمة من حالة التردي السياسي والإفلاس الأيديولوجي الذي وصلت إليه الشيعية السياسية الحالية في لبنان، والمعضلة الداخلية الكبيرة التي تعاني منها، بعد أن قطعت عملياً مع جميع الخطوط الناظمة لمشروع الإصلاحية الشيعية وما حملته من سمات الوطنية والحضارية والإعتدال والحوار والسلم والتسامح والتربية الفكرية والأخلاقية.

والحقيقة أن واقع التردي الثقافي الذي تعيشه قطاعات لا يُستهان بها من المجتمع اللبناني عموما، ومحاولة استغلال معظم الأطراف السياسية “جهل القطيع” الذي ساهمت الطبقة السياسية في صناعته وتشكيل وعيه وثقافته بات ينذر بما هو أخطر، وخصوصا في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة في لبنان وحالة الغليان التي يشهدها الشارع منذ انطلاق حراك تشرين والمحاولات السياسية والأمنية لإجهاضه.

والمطلوب اليوم من عقلاء ومثقفي البلاد والنخب الواعية ألا يقفوا متفرجين، بل عليهم أن يطالبوا بمحاسبة الفاعلين والكشف عن هوياتهم وانتماءاتهم وارتباطاتهم السياسية وتقديمهم للقضاء.

وأن يدعوا اللبنانيين الى الاتحاد في وجه محاولات استدراج الفتنة المذهبية، السنية-الشيعية والإسلامية-المسيحية، والعمل بكل ما أوتوا من وسائل لاستكمال مشروع تجديد الثقافة السياسية للبنانيين، وغرس القيم السياسية “الوطنية” للارتقاء بالسلوك السياسي العام من أجل بناء الشخصية الوطنية الواعية والمتسامحة والسوية والقادرة على التعايش السلمي والإيجابي والطبيعي مع الذات والآخر.

كما يجب عليها أيضا أن تحاول الوصول إلى الفئات الشبابية التي فقدت قدرتها على التمييز ما بين الإرهاب والمقاومة والطائفية والوطنية، واستقطابها مجددا، وخصوصا تلك الفئة من الشباب ضائع الهوية الذي دفعته الظروف الاقتصادية الصعبة للانتماء والتعصب الأعمى إلى أحزاب متطرفة، واستثمار تراجع القدرات المالية لتلك الأحزاب من أجل عملية الاستقطاب السياسي “الوطني”.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها