الأستاذ مصطفى أمين و قارئه الرئيس حسني مبارك

الكاتب المصري مصطفى أمين

لم يكن الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك فيما عرف عنه قارئا نهما، لكنه كان قارئا مطلعا في حدود يرسمها لنفسه.
 وكان يقرأ للأستاذ مصطفى أمين على عكس ما كان الأستاذ مصطفى أمين نفسه يعتقد، بل أنه كان يترجم كلمات الأستاذ مصطفى أمين إلى واقع سياسي مختلف تماما لا يجيده إلا رجل دولة متمرس.
 سندلل على هذا المعنى  بثلاثة أمثلة عابرة: 
 المثل الأول:  عندما صدر كتاب مذكرات عثمان أحمد عثمان”تجربتي ” وعثمان أحمد عثمان (رجل الأعمال المصري-ومؤسس المقالون العرب)  و تضمن الكتاب مساسا بذمة الرئيس المصري الأسبق؛جمال عبد الناصر وصورته العامة،  عرض الأستاذ مصطفى أمين؛ فقرة من الكتاب في مقاله اليومي بصحيفة أخبار اليوم -بإعتدال وحيادية ومن دون شطط ولا خطب.

كان عثمان آنذاك أقرب الناس إلى الرئيس المصري الأسبق محمد أنور  السادات، وكان في المستوى الرسمي نائبا لرئيس الوزراء للتنمية الشعبية، لكن مبارك لم يأبه بهذا، ووضع مقال الأستاذ مصطفى أمين أمام السادات مباشرة، فيما كان يعرضه عليه مما يرى ضرورة عرضه على رئيس الدولة.

ولم يكن أحد يتصور أن يكون قرار السادات المباشر هو إقالة عثمان أحمد عثمان من الوزارة في اللحظة نفسها، من دون لجوء إلى بيانات ولا تكذيبات ومن دون منع للكتاب من التداول .
لم يكن مبارك لينجح في استصدار مثل هذا القرار من السادات (ولا من نفسه) إلا بفضل مقاربة مصطفى أمين الذكية لموضوع حساس سواء قصد أمين إهانة عبد الناصر ،أو إهانة عثمان أحمد عثمان، أو إهانة الرجلين أو إهانة العصر الذي حدثت فيه القصة أو حتى إهانة السادات.

لم يكن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك فيما عرف عنه قارئا نهما، لكنه كان قارئا مطلعا في حدود يرسمها لنفسه. وكان يقرأ لمصطفى أمين على عكس ما كان أمين نفسه يعتقد

الموقف الثاني:- كان بطله من بين القراء أيضا هو حسني مبارك حيث قرأ المقال  الذي كتبه  مصطفى أمين عن حالة الانتقال الجماعي لأعضاء البرلمان من حزب مصر العربي الاشتراكي (الذي كان يرأسه ممدوح سالم ويتولى الوزارة ويمثل الأغلبية) إلى الحزب الوطني الديموقراطي الذي أسسه الرئيس السادات لتوه، وقد بلغت نسبة المنتقلين من هذا الحزب إلى ذلك الحزب حوالي 90 ٪ من أعضاء البرلمان، حينها استخدم الأستاذ مصطفى أمين في وصف هذا الانتقال كلمة واحدة هي “الهرولة”.
وضع حسني مبارك خطا تحت الهرولة وهو يعرض المقال على السادات؛ الذي لم يكن في حالة نفسية تسمح بممارسة حبه للديموقراطية، وإنما كان في الحالة النقيضة التي تستدعي اللجوء إلى تراث العسكرية والناصرية.

وهكذا كان العقاب في هذه المرة يتوجه إلى الأستاذ مصطفى أمين نفسه؛ بمنعه من الكتابة مع ما يلقي به هذا الموقف من ظلال على صورة السادات وأداء السادات؛ لكن الموقف كان يتطلب مثل هذا العنف حفاظا على صورة هؤلاء الأعضاء النواب الذين نشأوا وترعرعوا في عصر حكم الفرد وعبادة الفرد.
ماذا كانت وجهة نظر حسني مبارك وهو يعرض هذا الموضوع على السادات في ذلك اليوم؟ لا أحد يعرف لكننا نعرف بكل تأكيد الأثر المؤكد لهذا المقال!

وهو أثر لم يدر بخلد مبارك يومها، كان هذا الأثر أن حسني مبارك لم يلجأ أبدا إلى صناعة حزب جديد، أو إلى وضع اسمه على نظرية سياسية جديدة ، واكتفى بذكاء شديد بالاحتفاظ بالحزب الوطني على النحو الذي هرول به إليه أعضاء حزب مصر العربي الإشتراكي.
الموقف الثالث:- موقف غريب جدا؛ لكن مقال  الأستاذ مصطفى أمين كان كفيلا بأن يصنعه،فقد كان مبارك في الفترة التي عاشها في عهد السادات نائبا للرئيس (1975 ـ 1981) حريصا وقادرا على مجاراة السادات في معدلات التغيير السريعة للوزراء.

وكان يرى في تغيير الوزراء حلا للأزمات الطارئة، وربما حتى أزمات الثقة في الحكومة أو في السياسة وكان يرى أن يتم هذا في إطار سريع ومباشر ومن دون حاجة إلى انتظار تعديل موسع أو إلى صياغة تعديل موسع.

كما كان يرى أن يتم هذا بوضوح؛ لكن من دون صراحة على نحو ما حدث حين صدرت الأحكام في قضية عصمت السادات فخرج وزيران من الذين وردت أسماؤهم في القضية ، وبقى ثالث ، وذلك بناء  على تقدير مبارك نفسه لقيمة هذا التورط وحجمه .

مصطفي أمين وعلي أمين مؤسسا دار أخبار اليوم المصرية

وإذا تأملنا الفترة الأولى من عصر مبارك نجده قد غير الوزارة تغييرات مهمة ما بين تشكيل وتعديل في يناير 1982 وفي  أغسطس  1982 وفي مارس 1983 وفي يوليو 1984 وفي أكتوبر 1985 ولم يكن هذا بالأمر اليسير ، كما أنه استجاب للحملة على وزير الاقتصاد فأقاله في 1984 ، وهكذا.
لكن حسني مبارك توقف فجأة عن هذه المعدلات السريعة في التغيير بدءا من 1986 واحتفظ بالدكتور عاطف صدقي منذ 1986 وحتى 1996 في ثلاث وزارات متتالية.

لكن السبب الحقيقي في توجه حسني مبارك إلى هذا الثبات في اختيار المسؤولين يعود إلى مقال كتبه الأستاذ مصطفى أمين بعدما انتهى تشكيل وزارة علي لطفي على نحو ما انتهى إليه من أمر واقع؛ بعد أن اعتذر عنها عدد من المرشحين للوزارة في ذلك اليوم.

  و قد حدث أن كان ابتعادهم معروفا علنا وحتى من دون أن يذهبوا للقاء علي لطفي والاعتذار له، ذلك  أن بعضهم اعتذر بالتليفون عن أن يشارك في الوزارة، مع أن بعضهم روى فيما بعد أن ما ترامى إليه أن الترشيح كان عابرا ولم يكن جادا.

لكن جاء مقال الأستاذ مصطفى أمين حاسما وكأنه يصور المشاركة في الحكم نوعا من أنواع المغامرة ونوعا من أنواع الغُرم .

لم يكن الأستاذ مصطفى أمين في سن والد مبارك بأية حال من الأحوال لكن مكانة الأستاذ مصطفى أمين في الحياة كانت لا تقل عن مكانة من هم آباء لمبارك في السن.

وهو معنى شائع في كثير من الأحيان لكن الذي سيتأثر به هو رئيس الدولة نفسه حين يجد الكفاءات تبتعد مفضلة السلامة بدلا من أن تقترب مفضلة الغنيمة والوجاهة.
عقب تشكيل علي لطفي للوزارة واعتذار بعض من كان مبارك نفسه يرحب بهم، بدأ  مبارك بحس القائد العسكري ينتبه  إلى أن الصورة العامة باتت في غير صالح هيبة الدولة؛ وأنه لا بد أن يحفظ لمناصب الدولة  رونقها ولو بطريقة الثبات في شاغليها وحجب المرشحين لها، ومنع التواتر عليها، هكذا أخد قراره ” الجمودي ” الذي كان مناسبا لطبيعته الشخصية والذي صار هو طابع حكمه بدلا من الطابع الأول الذي كان هو التغيير والتغيير السريع.
كان السبب الحقيقي هو أن الأستاذ مصطفى أمين كتب مقالا شرح فيه الفكرة وأنهاه بقوله مخاطبا الوزير: “عزيزي الوزير إنك تجلس على خازوق كبير”.
لم يتمالك حسني مبارك نفسه بعد أن قرأ هذه المعاني بل لم يستطع أن يتحكم فيها  بل لم يجد مانعا يمنعه من أن يروي الواقعة وأن يظهر امتعاضه من أن رجلا في سن والده “يقول هذا اللفظ”، لم يكن الأستاذ مصطفى أمين في سن والد مبارك بأية حال من الأحوال لكن مكانة الأستاذ مصطفى أمين في الحياة كانت لا تقل عن مكانة من هم آباء لمبارك في السن.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها