الأحكام الشرعية في التعامل مع الأوبئة (2)

محاولات حثيثة لاحتواء فيروس كورونا المستجد في جميع أنحاء العالم
محاولات حثيثة لاحتواء فيروس كورونا المستجد في جميع أنحاء العالم

ما يسبب في الحلق غصة أن تكون لدينا شريعة بهذه التعاليم التي تجعل واجبات الوقاية من الأمراض واجبات دينية عينية يحاسب الناس عليها كما يحاسبون على الصلاة ولا نكون أسبق الأمم.

ما هو الواجب الشرعي في مواجهة كورونا؟

الواجب في اصطلاح الأصوليين هو “ما طلب الشارع فعله من المكلف بشكل حتما بحيث يعاقب تاركه ويثاب فاعله”.

والواجب ينقسم إلى قسمين:الأول الكفائي: هو المطلوب فعله من مجموع الأمة بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين،  وإذا لم يقم به أحد أثم الجميع.

والثاني العيني: فهو المطلوب فعله من كل شخص على حده، وفي حكمة هذا التقسيم يقول الإمام القرافي  المالكي في الفرق الثالث  (الأفعال قسمان منها ما تكرر مصلحته بتكرره ومنها ما لا تكرر مصلحته بتكرره فعلى سبيل المثال ،صلاة الظهر فإن مصلحتها الخضوع لله تعالى وتعظيمه والتذلل له والتأدب بآدابه،وهذه المصالح تتكرر كلما كررت الصلاة.
أما القسم الثاني كإنقاذ الغريق إذا أنقذه شخص، فالنازل بعد ذلك في البحر لا يحصل شيئا من المصلحة فجعله صاحب الشرع على الكفاية نفيا للعبث وكذلك كسوة العريان وإطعام الجيعان ونحوهما)

شمول الواجب الكفائي لكل مصالح الأمة الدينية والدنيوية

من السياسات غير الرشيدة في دراسة أصول الفقه هو تناول أمثلة واحدة  طبعت في أذهان  الطلاب عن الواجب الكفائي فيضرب المثل به دائما بصلاة الجنازة وغسل الميت  حتى إذا ذكرت فروض الكفاية تذكروا تغسيل الميت ودفنه لاغير.

والحقيقة أن الواجب الكفائي يتمثل في القيام بكل ما  يتعلق بنهضة الأمة وتقدمها،وتحقيق مصالحها.

وقد ذهب جمهور الأصوليين أن واجبات الكفاية تشمل ما يتعلق  بمصالح الأمة الدينية والدنيوية.

ولما كان الحفاظ علي النفس  من مقاصد الشريعة  العامة  ويشمل ذلك حماية النفوس من الهلاك و كانت الأمراض  من أسباب هلاك النفوس، فقد وجب حماية النفوس من الأمراض والأوبئة سواء بالوقاية منها قبل الإصابة أو العلاج بعد الإصابة.

وتعد هذه واجبات يتوجه إليها  خطاب الشرع بالتكليف، فقد أمر الشرع  بالتداوي  وبين أن  لكل داء دواء،فقد روي جابر رضي الله عنه  قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم “لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله” رواه البخاري.

وجوب حماية النفوس من الأمراض والأوبئة سواء بالوقاية منها قبل الإصابة أو العلاج بعد الإصابة واجب على كل مكلف

فيجب على المريض وجوبا عينيا  التداوي والأخذ  بعموم  التدابير الوقائية  عند وجود الوباء.

فان لم يكن هناك دواء للمرض وجب علي الأمة في مجموعها  وجوبا كفائيا اكتشاف هذا الدواء سواء أمصال ولقاحات للوقاية أو أدوية للعلاج وتجهيز المستشفيات والمصحات اللازمة لذلك  فالعمل على اكتشاف علاج  لفيروس الكورونا  سواء الأمصال واللقاحات الوقائية او الأدوية.

من المخاطب بوجوب  اكتشاف  علاج  للفيروسات الأطباء وحدهم أم الأمة؟

ربما يتبادر إلى الذهن أن  التكليف الشرعي بالوجوب الكفائي  في اكتشاف الدواء يتوجه إلى المختصين بذلك وهم الأطباء وعلماء الأوبئة  غير أن النظر الفقهي الصحيح هو أن خطاب الوجوب  يتوجه إلى الأمة  كلها  بجميع أفرادها وتكون الأمة أثمة إذا قصرت في ذلك.

وقد ذهب عامة الأصوليين إلي أن الأمة كلها مخاطبة بجميع أفرادها بواجبات الكفاية وتظل ذمة كل فرد فيها مشغولة به حتى يتحقق هذا الواجب في عالم الواقع .

الشريعة الإسلامية تجعل واجبات الوقاية من الأمراض واجبات دينية  عينية يحاسب الناس عليها كما يحاسبون على الصلاة والصيام

لذا فإن جميع أفراد المجتمع مخاطبون بالواجب الكفائي الأطباء وكل قادر على ذلك وغير القادر، حتي يتحقق هذا الواجب في عالم الواقع وعندها يسقط الإثم عن الجميع.

ويبين الأمام الشاطبي العلة  في  إلزام جميع الأفراد بالواجب الكفائي فيقول: القيام بهذا الفرض قيام بمصلحه عامة،لذا فهم مطالبون بسدها، فبعضهم قادر عليها مباشرة، وأن لم يقدروا عليها فهم قادرون على إقامة القادرين.

وهذا يعني أنه إذا كان ذلك شأن  للمتخصصين من الأطباء وعلماء الأمراض والأوبئة  إلا أن باقي أفراد المجتمع  عليهم واجب القيام بحث تلك الفئة التي تعينت لذلك حتي تقوم  به من خلال مساعدتها بجميع أنواع الدعم سواء أكان دعما ماليا أم إعلاميا أم اقتصاديا حتي تقوم الفئة المعينة بتحقيق هذا الواجب كي يسقط عن الجميع.

إن ما يسبب في الحلق غصة ويسكب في النفس الحسرات  أن تكون عندنا  شريعة بهذه القواعد والتعاليم  التي تجعل واجبات الوقاية من الأمراض واجبات دينية عينية يحاسب الناس عليها كما يحاسبون على الصلاة والصيام، وتجعل من اكتشاف الأدوية وعلاج الأمراض واجبات دينية كفائية تأثم الأمة كلها بتركها  ولا تكون هذه الأمة أسبق الأمم في التعافي من الأمراض، واكتشاف الأدوية المناسبة لجميع الأمراض .

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها