استراتيجية الضدّ.. بين السبسي والنهضة

 

في انتخابات سنة 2014 التي أتت بحزب نداء تونس إلى الحكم، بنى الباجي قايد السبسي الرئيس الحالي استراتيجيته الانتخابية على ما يسمى ” بالتصويت الفاعل ” والذي ارتكز أساساً على الضديّة مع حركة النهضة.

في ذلك الوقت وبعد أربع سنوات من حكم النهضة نجحت هذه الاستراتيجية في استدراج كتلة انتخابية مهمة أهلت نداء تونس لتصدّر النتائج التشريعية واختتمت بفوز الباجي قايد السبسي برئاسة الجمهورية إثر منافسة قوية مع الدكتور المنصف المرزوقي.

منذ ذلك الوقت صار الضدّ استراتيجية عند العائلة التقدمية كما يحلو لها تسمية نفسها.

في الحقيقة يبين هذا التمشي عن مواطن خلل كثيرة عند هذه العائلة السياسية من ناحية، ومن ناحية أخرى عن تكلّس في الحياة السياسية التونسية.

إذ إنّ لجوء حزب نداء تونس إلى هذه الاستراتيجية سنة 2014 يعبّر عن غياب مشروع واضح المعالم يدخل به التنافس الانتخابي فتحولت العملية إلى تعويض هذا النقص بإنتاج خطاب يجمع شحنة أيديولوجية بأخرى عاطفية يبني على ضرورة معاقبة حركة النهضة فيما اعتبر من طرفهم فشلا في إدارة الحكم ومحاولة لتغيير النمط المجتمعي.

فالمراقب للحملة الانتخابية لنداء تونس سنة 2014 لا يكاد يظفر بأي دلالة عن وجود مشروع لقيادة البلاد سوى التعبير عن كونه مشروعا نقيضاً لمشروع حركة النهضة.

وقد نجح الباجي قايد السبسي في الاستثمار في هذا الخط، إذ رغم ذهابه في شراكة مع النهضة بعد انتخابات أكتوبر 2014 فرضتها نتائج الانتخابات آنذاك، إلا أنّه ظلّ باستمرار يؤكد على أنّه الراعي لتطوّر حركة النهضة ولم يضيع أي فرصة في خرجاته الإعلامية حتّى يؤكّد أنّه يتابع هذا الأمر بنفسه وأنّ النهضة تتجاوب مع طبيعة المشروع الذي يراه لتونس وأنه نجح في “ترويض” الاسلاميين.

ظلّ هذا خطاب الرئيس التونسي إلى حدود رفض حركة النهضة مشروع ” لجنة الحريات ” التي شكلها الباجي، ومن ثم رفضها لإقالة السيد يوسف الشاهد رئيس الحكومة الحالية، حتى يعود الباجي ومعه ترسانة إعلامية لنفس المربّع ” استراتيجية الضّد “.

وفي واقع الأمر أنّ هذه الاستراتيجية صارت خيارا عند الكثير من السياسيين باعتبار ما يفترض عندهم من عائدات انتخابية مهمّة تدرّه هذه الاستراتيجية.

ولعل ّ الأخطر من غياب مشروع ضمن هذه الاستراتيجية هو روح الإقصاء التي تبنى عليها، إذ يحرص أصحاب هذا الرأي على تصوير مشروع حركة النهضة كمشروع غريب يصل عند البعض إلى ضرورة استئصاله كما هو واضح في خطاب الجبهة الشعبية بقيادة حمة الهمامي.

مع ميلاد حزب ” تحيا تونس ” والذي يقوده رئيس الحكومة يوسف الشاهد ابن نداء تونس والذي جاء به الباجي إلى قصر الحكومة بالقصبة، يطرح السؤال هل سيذهب مع حزبه في استعمال هذه الاستراتيجية؟ وكيف سيتعامل مع التحالف الذي يربطه مع حركة النهضة في هذه المرحلة؟

قد يكون يوسف الشاهد غير معني في شخصه بشكل مباشر بالتعبير عن تبنيه لهذه الاستراتيجية باعتبار وضعه كرئيس لحكومة تشارك فيها النهضة، رغم تأكيده خاصة في خطاباته الأخيرة على  أنّ مشروعه نقيض لمشروع حركة النهضة، في سعي مستمر لوراثة نداء تونس والقيام بعملية تحويل لخزانه الانتخابي في مرحلة أولى وقيادة العائلة التقدمية في مرحلة ثانية.

لكن في محيط الشاهد هناك ما يوحي أنّ هذه الاستراتيجية – أي ضدّ النهضة – تعتبر قائمة، المثال في ذلك جملة من التصريحات في هذا الاتجاه صدرت عن جملة من رموز الحزب الجديد، وخاصة ما صدر عن النائب هدى سليم التي أكّدت حرصهم على فوز مريح في الانتخابات المرتقبة في خريف 2019 حتى لا تضطر للتوافق مع حركة النهضة التي لا يجدون أي تقاطع معها في مستوى الأفكار والتوجّهات.

استمرار هذه الاستراتيجية لا يبشر بإيجاد حالة سياسية صحية ومناخ سياسي سليم فضلا أنها تؤكّد حالة الفراغ التي تعيشها الحالة التونسية في إنتاج مشاريع تتوجّه لمشاكل المواطنين بدل الاستغراب في صناعة الخصوم السياسيين والتعبير بموجب أو بغير موجب عن رفض البعض للبعض.

في تونس اليوم يوجد ملف يحتاج تضافر جهود الجميع للتغلب عليه وإنقاذ سفينة البلاد حتى تصل إلى شاطئ الأمان، أقصد هنا الملف الاجتماعي والوضع الاقتصادي.

إنّ استمرار حالة الضدّية في الحياة السياسية يعتبر تهديداً مباشراً لهذا الأمر إذ يحول دون إيجاد كتلة سياسية قوية قادرة على تدشين مرحلة الاصلاحات المطلوبة في البلاد لإنقاذ توازناتها المالية ووضعها الاقتصادي والاجتماعي من الانهيار.

يبقى هناك نقطة شديدة الحساسية ضمن هذا الواقع، حيث إنّ استمرار استعمال هذا السلاح ذو الشحنة الأيديولوجية يؤكد أنّ القضية المجتمعية أو النمط المجتمعي كما يعبّر عن هذا في الحالة التونسية ما زال محلّ اختلاف بين نخبته رغم أنّ دستور يناير 2014 قد حسم الأمر من حيث ديباجته ولكن يبدو أنه لم يحسم الأمر على أرض الواقع.

ولعلّ هذه القضية هي أكثر ما يغذّي استراتيجية الضدّ خاصّة إذا ما تعلّق الأمر بمنافس مثل حركة النهضة.

كل ما تقدم يجعلنا أمام حتمية حوار مجتمعي هادئ وواعي يطرح القضايا الاستشكالية ولا يصادر على رأي المجتمع في جملة من القضايا وضرورة تحرره من تسلط نخبته في هذه القضية التي لا تقبل هذا التعامل العمودي بما يحيل على حقب من التحنيط القسري ويصنع نتوءات داخل جسم المجتمع ويحوّله إلى كتل متصارعة باسم الأيديولوجيا العمياء.   

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها