“أنا لست مجنونا”

لما يصرون على دفننا أحياء هل مرضنا عار؟ هل علاجنا سيقلل منهم في شيء؟ ونحن لسنا بمحور للكون بالنسبة لهم، “لما يفضلون أن نختفي عن أعين الناس ونفقد كل ما تبقى من عقولنا.

أقولها لنفسي “أنا لا أحتاج الى طبيب نفسي حتى أعلم بأني أعاني، أنا أعاني من أربعة وعشرين عاما ومنذ أن اشتد أزري وأصبحت مضطر غصبا لمواجهة الحياة وأنا أقول لنفسي أني الجأ إلى الاكتئاب كحل أو كطريقة للهروب.

فقط تسع أكواب من الشاي وست فناجين من القهوة وعلبتان من السجائر التي تحرق في صدري على معدة فارغة، كل هذا أتجرعه في يوم واحد يجعلني أؤمن إيمانا تاما أني أعاني، أعاني من شيء شديد، شديد جدا أشد من الضجر، أشد من الملل، حتى أشد من الاكتئاب، أو يمكن أن يكون اكتئابًا، الاكتئاب الذي جعلني لا أتذوق أي شيء، جعلني أجوع بشدة ومن ثم تنغلق شهيتي عن العالم بأكمله، جعلني روح ذات الأربعين في جسد يعاني من أربعة وعشرين عاما، حقا قد خدع نفسه من قال إن الشباب يرتبط بسن محدد! أو يمكن أن أكون أعاني من مرض أشد من كل ذلك!  

يمكن أن يكون مرضا، أي مرض؟! مرض نفسي، لا لا، واجب على أن أنكر، وقبل أن أنكر، على أن أصمت، وإلا سينعتونني بالـ “المجنون”، وإلا سأكون مرفوضا، ومنبوذا من كل من هم حولي القريب منهم قبل البعيدأتحدث إلى نفسي منفردا

ما لو ذهبت للطبيب وقال لي: إني أعاني مثلا من “الوسواس القهري” والخوف من أي شيء ومن كل شيء، أكرر الأشياء قهرا، أضعف أمام مقاومة شيء “أكرر صلاتي، أكرر غسل يدي أو أكرر أفكار خوفي من نفس الأشياء”.

أو قال لي أني لدي ما يسمى “بالفصام” وبأنني فاقد القدرة على تمييز الواقع، ومنعدم الإرادة، انسحب من المجتمع بهدوء، والكيمياء داخل رأسي وفي كل جسدي تفشل في التوازن مع بعضها البعض، وبأن جسدي يرفض نفسه فيجعلني رغما عني أرفض العالم.

أو أخبرني بأني شخصية فصامية تعاني من “اضطراب حاد” ذاكرتي مختلة ونسياني شديد وسأحتاج دائما للمساعدة! وأنا على يقين أنه ليس هناك من سيساعدني.

“كل هذا أفكر به قبل أن أقدم على خطوة حقي في الحياة”، لم أر في حياتي أعجب من ذلك، حياتي التي لم أعرفها بعد!

فإذا كان لدي اكتئاب سينعتونني بالمجنون، فما بالي إذا كان لدي واحد من هذه الأمراض، من سيتحملني؟، من سيشعر بما أشعر به من ألم حاد، ألمٌ ليس معه تورم، ألمٌ لا يعقبه نقطة دم، ألمٌ خفي ” وما خفي كان أكثر إيلاما

أما اذا صرخت مستغيثا للعلاج سينتهى بي المصير بأن أدفن حيا بمستشفى ذات طابع سجوني بأسوار حديدية يأكلها الصدأ، ويأكل كل يوم من عمري معها، لا أختلف كثيرا عن شجرة كتب لها القدر أن تقضي الباقي من حياتها في مكان واحد، لا يهم إلى أي مدى أنت تعاني، لا يهم أنك وحدك.

فهنا المعاناة في صمت أكثر رحمة من الظهور في ألم!

لما يصرون على دفننا أحياء هل مرضنا عار؟ هل علاجنا سيقلل منهم في شيء؟ ونحن لسنا بمحور للكون بالنسبة لهم، “لما يفضلون أن نختفي عن أعين الناس ونفقد كل ما تبقى من عقولنا بدلا لنا أن نسترجع ما فقدناه منها من أجزاء”، وأقول لنفسي: في كل الاختيارات ستكون مخطأ كل الخطأ حتى إذا أنهيت بنفسك كل هذه الصراعات والآلام التي تحدث بداخلك، وتركت لهم الحياة في هدوء، سيتهمونك بمنتهى الجهل “بكفرك” بالحياة وكأنهم هم من يمنحوك الحق في الحياة، وهم في الحقيقة قد سلبوا منك كل حق لك فيها بمنتهى الأنانية، وهذه أبشع الجرائم في حق الإنسانية.

أخيرا، رسالة إلى صديقي الذي يعاني: هل تعلم أن لا أحد يعلم المعاناة التي تحدث بداخلك إلا أنت لذا خلق الله الطب النفسي، أقول لك بكل تفاخر وإحساس بالرحمة “أنت مريض بأكثر الأمراض التي تستطيع أن تثبت بها للعالم كله أنك إنسان” أنت شخص ذو روح مفرطة الإحساس تنعم بإنسانية حرة رفضت قيود كل من حولها حتى تركتهم زهدا منها في الواقع؛ فهم المرضى الحقيقيون وأنت في مجتمع فقط يتفنن في “كيف يجعلك مريضا”، فاختر نفسك ولا تبالي بهم أبدا، كل الأمنيات لك بحياة هادئة سليمة بعيدا عن كل ما تخاف وتكره،وندائي لك بالحياة لأنك تستحق الحياة.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها