أزمة كورونا..هواجس الجسم وأخلاق النفس.

طفلة أمريكية تتابع دروسها عبر الإنترنت بسبب كورونا في ساحة منزلها الخارجية

بينما تغلق الدول مجالاتها الجوية والبحرية والأرضية، وتسارع الزمن من أجل انحصار الجائحة.. انتشر الخوف والفزع، والفوضى والهلع، وعمت الوساوس وكَثُر القلق، وزادت الاضطرابات وذاع الأرق.

لم يكن العالم يتوقع من قريب أو بعيد، أن يحل عليه ضيف ثقيل من حجم كورونا، فمع مطلع العام 2020، كان سكان الكرة الأرضية قاطبة بين هائم وغاد ويعيشون إيقاعات يومياتهم العادية، كل منهمك في واقع حياته وأمانيه…

ومنغمس في شؤون حاضره، وتفاصيل عيشه، سواء الفقير أو الغني، العالم أو الأمي، الكبير أو الصغير… وماهي إلا أيام حتى ذاع انتشار فيروس يهدد الحياة، ويخترق الحدود، ويلغي المسرات.

يهاجم على عجل الجهاز التنفسي، ويلحق الأذى سريعا بالجهاز العصبي،فمن وباء يشكل تحديا حقيقيا أمام الأطباء والخبراء، تحول إلى جائحة  عالمية تحصد الأرواح، مخترقة حدود الدول، وزائرة لكل مكان به.

“ضحاياها المفضلون” من كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، وكل مُفَرطٍ في أسباب الوقاية ومسببات انتقال العدوى.. مهما كان مستواه أو سنه أو رتبته الاجتماعية…
وبينما تغلق الدول مجالاتها الجوية والبحرية والأرضية، وتسارع الزمن من أجل انحصار الجائحة.. انتشر الخوف والفزع، والفوضى والهلع، وعمت الوساوس وكَثُر القلق، وزادت الاضطرابات وذاع الأرق، وراجت الضغوطات النفسية، وصاحبتها الانكسارات من توترات ومشكلات.

ولعل هذه الأعراض والسمات كلها من منغصات الصحة التي هي أساس كل الخيرات بلا منازع، فضلا عن أنها أيضا عوامل داخلية تصنف من بين أعداء الجهاز المناعي، الذي بفضله يحافظ  الجسم على توازنه واتزانه. إذن هي توترات تعتري النفس، وتطغى على ايقاعات الحياة، وتَزيدُ حدتها لا سيما في زمن الأزمات، ومشكلات تتربع على عرش واقع الناس في أوقات الصدمات؛ التي تأتي على حين غرة أوفي غفلة وبدون مقدمات.

 تسارع الزمن من أجل انحصار الجائحة.. انتشر الخوف والفزع، والفوضى والهلع، وعمت الوساوس وكَثُر القلق، وزادت الاضطرابات وذاع الأرق، وراجت الضغوطات النفسية، وصاحبتها الانكسارات من توترات ومشكلات.

أحببنا أن تكون هذه الكلمات الوصفية افتتاحا لمقالنا هذا الذي سنحاول فيه تسليط الضوء على موضوع من الأهمية بمكان، ويشكل الشغل الشاغل لكن إنسان، ومغبون فيه كثير من الناس، وهو الصحة التي هي أساس جميع الخيرات في هذه الحياة. حيث سنتناول موضوع الصحة في ميزان علم النفس أو بعبارة استفهامية أشمل، ما حيز اهتمام علم النفس بصحة الإنسان؟
لابد أولا: أن نشير إلى أن علم النفس هو علم مستقل ينتمي إلى مجال العلوم الإنسانية بصفة مسماه، لا بصفة تطبيقاته التجريبية، فهو عمليا ينتمي إلى مجال العلوم الطبيعية، وينكب على دراسة سلوك الإنسان.

تفشي فيروس كورورنا يؤثر على الصحة النفسية للإنسان

وينصب على فهم تصرفاته، ويهتم بنشاطه الذهني. وليس موضوعه (النفس/الروح) -كما يعتقد البعض- التي هي من اختصاص علمه سبحانه وتعالى ولم يُطلع عليها أحدا من خلقه، لقوله عز وجل (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).

إلا أن علم النفس مازال حبيس مجموعة من التمثلات والتصورات الخاطئة، نظرا لفوضى كبيرة يعج بها الواقع، لذلك يتم التلبيس على الكثير من المهتمين، بألفاظ ومصطلحات، ومفاهيم وعبارات، وتحليلات وتأويلات.. لا تنتمي إلى هذا العلم وبريء منها براءة الذئب من دم يوسف..
وباعتباره علما لصيقا بالإنسان، وقريبا من النفس، عزيزا على الفكر، ملتحما بقضايا العصر، وبمشكلات الحاضر… يجد نفسه أمام فرصة سانحة ومنعطف تاريخي لتقديم خدماته النظرية والتطبيقية إلى الإنسانية.

لا سيما في هذه اللحظات الموسومة بكثير من اللايقين، فالزمن الراهن عادة ما يغلب عليه الحزن في الحجر الصحي نظرا إلى “الهجرة الجماعية” إلى “الشبكات الإنترنتية” والعوالم الافتراضية، وما تتسبب فيه هذه الأخيرة من تشويش على الفكر وما تلحقه من خلل باتزانه.

ففيها يتلاشى الزمن، ويقل الاهتمام بالأنشطة الواقعية، ويرحل (افتراضا) معها الشخص إلى عوالم غير محدودة، وينغمس في عالم الشاشة الصغيرة، كل حسب ميوله  وقوائم اهتمامه..
وهكذا تجد الفرد “الإنترنتي” تائها بين زخم المواد الرقمية، وما توفره هذه الشبكات من معطيات، وما تتناقله من فيديوهات وصور وتعليقات…، وما تتيحه من تطبيقات… كما أن تركيز النقاش والاهتمام على قضايا معينة داخل البيت الواحد قد يؤدي إلى العنف بأنواعه المادية والرمزية واللفظية وحتى الاقتصادية…

ويضيع معه الجو الأسري المفروض أن يكون مفعما بالاحترام والحب والتعاطف والتعاضد في زمن الشدة… وكذلك فبصرف النظر عن مراقبة الأطفال يفضي إلى إدمانهم على ألعاب الإنترنت أو عدم الأهتمام بالقراءة ومتابعة الدروس المدرسية، أو إنخراطهم مع الكبار في عالمهم وفي انشغالاتهم ونقاشاتهم، وحتى في إيقاعات نومهم، الشيء الذي قد يؤثر سلبا على عمليات نموهم العقلية والتفاعلية والعاطفية والتواصلية.
فالفراغ لا يدرك أهميته الكثير من الناس وطريقة تدبيره في زمن الحجر الصحي، هو مسؤولية شخصية بالدرجة الأولى ثم أسرية واجتماعية بالدرجة الثانية، فضغط الواقع والحاجة والفاقة مع الجهل وقلة الوعي بيئة خصبة تَنبت فيها الأفكار الوسواسية وتنمو فيها ظواهر العنف، ويتم فيها الترويح عن النفس بطريقة معاقة… وتزدهر معها الإحباطات والمحبطات، ويُكبِل فيها الشخص نفسه بأصفاد الاكتئاب والانكسارات، وربما ينتهي الأمر فيها إلى وضع حد للحياة…

الفراغ لا يدرك أهميته الكثير، وطريقة تدبيره في زمن الحجر الصحي، فهو مسؤولية شخصيةو أسرية واجتماعية  فضغط الواقع والحاجة والفاقة مع الجهل وقلة الوعي بيئة خصبة تَنبت فيها الأفكار الوسواسية وتنمو فيها ظواهر العنف

فعلم النفس في عمقه يسعى إلى فهم جميع هذه السلوكات وأخرى…، وطريقة معالجة الفرد للمعلومات…، لهذا فهو يهتم بالإنسان في جميع أبعاده، وذلك باتباع مناهج تنطلق من الفهم والتفسير مرورا بالتنبؤ، وانتهاء عند المعالجة بغاية ايجاد مكامن الخلل أو الألم، وعودة التوازن ورجوع الأمل، ومن بين فروعه المهمة.

نجد علم النفس الصحة الذي يعد ظهوره حديثا، فقد كانت ولادته سنة 1979 مع الجمعية الأمريكية لعلم النفس APA، وتم تطويره في سياق أبحاث محددة مكانيا، وبالتحديد في أمريكا الشمالية والمجال الأنجلوساكسوني.

ويمكن تقديم تعريف واسع له، بكونه ذلك الفرع الخاص من علم النفس الذي يسعى إلى فهم الصحة والمرض من خلال المعرفة السيكولوجية (النفسية).

وبعبارة أخرى إنه مجال معرفي يدرس مختلف العوامل السيكولوجية والاجتماعية والبيولوجية المتدخلة في الحفاظ على الصحة وكذلك تلك المتعقلة ببدء المرض وتطوره. Fischer, 2002, p6)).
فعلم نفس الصحة يوفر معطيات جديدة للصحة، بحيث تكون هذه الأخيرة حالة عامة من الرفاهية(الراحة التامة) النفسية والعضوية، تأخذ فيها المكونات النفسية مكانة مركزية في التوازن العضوي، وهكذا فعلم نفس الصحة لا يركز على التمظهرات المرضية فقط

ولا يتمركز حول الصحة العقلية التي تشير إلى “الاستعداد النفسي الذي يشتغل بطريقة متناغمة ومرتاحة وفعالة وقادر على مواجهة الوضعيات الصعبة بكل مرونة وايجاد توازنه النفسي”  Fischer, 2002، لكن الصحة تُبطن محتوى.

هذا المحتوى تلعب فيه العوامل السيكولوجية دورا مركزيا سواء على المستوى النفسي أو العقلي. فالعوامل النفسية لها دورها المحوري في الصحة العقلية والجسدية للإنسان.

ولا أدل على ذلك من شهادة الرازي قديما حين قال “ينبغي للطبيب أن يوهم المريض بالصحة ويرجيه بها، وإن كان غير واثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس”.. نستكمل الحديث في حلقة قادمة .

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها