أزرار لإسقاط النظام

يحرص مؤسّس فيسبوك “مارك زوكربيرغ”، في كلّ ظهور إعلاميّ، على التجمّل بأفكار تعكس رؤية إيجابيّة للعالم.

فيبدو مهذّبا ومتواضعا جدّا على عكس ما يظهر في سلوك عامّة الناس على منصّته التفاعليّة عندما تتعطّل لغة الحوار وتنقلب إلى شتائم وتهديدات.
أذكر في هذا السياق موقفه المبدئيّ حين عارض “عدم احترام الآخرين”، ونهى عن جرح مشاعرهم بمناسبة الأفكار والمقترحات التي طرحت  لتطوير المنصّة الزرقاء، ومنها إمكانيّة إضافة زرّ “لا يعجبني/dislike”، بعد أن ازداد الطلب عليه.

فعبّر عن مخاوفه من إساءة استعمال تلك الوصلة، وقدّم بدائل أخرى “كوسيلة للتعبير عن التعاطف مع صديق شارك بخبر حزين، على سبيل المثال، وليس لجرح مشاعر الآخرين”، كما قال، مضيفا بلهجة وعظيّة: “هذا لا يليق بالمجتمع الذي نحاول بناءه، فعندما تشارك لحظة أو فكرة تعني لك الكثير خلال يومك،لا نريد أن يفسد عليك أحد ذلك”.
إنّ ظهور مؤسّس فيسبوك بذلك الموقف الذي يحترم مشاعر الناس، يقدّم شخصيّة تصلح أن تكون مثالا يحتذيه الطلاّب والمراهقون عموما، فتلك الشريحة تتأثّر بالمشاهير، وتحتاج إلى أكثر من قدوة في مجال مكارم الأخلاق.

وفي هذا الباب يستطيع رجال التربية والتعليم أن يستدلّوا بدعوة الرجل إلى تجنّب مضايقة الآخرين في قناعاتهم بأسلوب عنيف وفجّ.

ويمكن تنبيههم في نفس ذلك الإطار التربويّ، إلى خطورة الإدمان على الإنترنت، وضرورة العودة إلى الهوايات المفيدة كالمطالعة التي يقبل عليها زوكربيرغ نفسه بانتظام، فهو يقرأ كتابا كلّ أسبوعين، وكانت “مقدّمة ابن خلدون” من بين ما قرأ، حتّى إنّه أشاد بذلك الأثر الذي وضّح له الرؤية السائدة للعالم قبل 700عام.
وكما هو معلوم، يسعى القائمون على فيسبوك إلى رصد ردود فعل الناس حول ما يحدث في مجتمعاتهم لتكوين رؤية دقيقة عن عالم يموج بالأحداث المضطربة.

ذكر مؤسّس فيسبوك في معرض إجابته عن أسئلة الروّاد أنّ الطلب على زرّ “لا يعجبني”، تزايد من قبل المستخدمين في مصر.

وفي هذا الباب، أضافوا زرّا جديدا قبل أيّام لإبداء التعاطف بواسطة الاحتضان  (hug) تفاعلا مع القصص التي جاءت بها أزمة كورونا الأخيرة.

كما أضيفت أزرار عديدة قبل سنوات للتعبير عن مشاعر الحزن والغضب الشديد أمام الانتهاكات الكثيرة التي طبعت ثورات الربيع العربيّ، فبعد أن كثرت الاعتداءات الموثّقة بالصوت والصورة، وأصبحت مادّة إخباريّة  بمنصّات التواصل الاجتماعيّ.

تحدّثت جملة من التقارير عن دور الأزمة السوريّة في التعجيل بقرار زوكربيرغ إضافة وصلات للتعبير عن عدم الرضى، إذ بيّنت مقاطع الفيديو المتعلّقة بمعاناة السوريّين في أرضهم أو خارجها، أنّ زر”أعجبني” لا يكفي وحده للتعبير عن شعور المستخدمين وعن سخطهم تحديدا.
ونفس الأمر، ينطبق على الوضع المصريّ، حيث ذكر مؤسّس فيسبوك في معرض إجابته عن أسئلة الروّاد أنّ الطلب على زرّ “لا يعجبني”، تزايد من قبل المستخدمين في مصر.

وليس من الصعب تفسير ذلك، فسِجِلّ عبد الفتاح السيسي غنيّ بالانتهاكات والتجاوزات التي ساهمت في استيلائه على جميع السلطات بعد انقلاب دمويّ أدّى إلى إبادة مئات المعارضين بطريقة وحشيّة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد.
وعلى العموم يمكن القول إنّ “فيسبوك” يكره المستبدّين وأنظمتهم، ولذلك أضاف أزراره العجيبة للتعبير عن المعارضة والأسف والسخط. ولكنّه لن يساعد على التخلّص منهم بسهولة وسرعة.

فأزرار فيسبوك كالعقاقير المسكّنة للألم، تخفّف بعض أوجاعنا، ولا يمكنها القضاء على أسبابها.. وفي ذلك تكمن المفارقة بخصوص تلك المنصّة التواصليّة المهمّة التي تساعد فقط على التنفيس وتفريغ شحنات الغضب حين نتفاعل مع الروابط المتعلقة بالاستبداد وجرائمه، أو بالفساد المستشري وفضائحه، لننقر ببساطة على وصلة الإعجاب أو الحزن أو السخط…

سِجِلّ عبد الفتاح السيسي غنيّ بالانتهاكات والتجاوزات التي ساهمت في استيلائه على جميع السلطات بعد انقلاب دمويّ أدّى إلى إبادة مئات المعارضين بطريقة وحشيّة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد.

أو نكتب تعليقا غاضبا، أو نشارك المنشور للمساهمة في إيصاله إلى جمهور أكبر. وبعد أيام يخبو حماسنا وحتّى تأفّفنا، فإذا شاهدنا المنشور المستفزّ مرّة ثانية، تجاوزناه بسرعة لأنّه مستهلك لا جديد فيه، وتركناه يمرّ مرور الكرام في شريط الأخبار خاليا من كلّ تفاعل.

فمنشورات فيسبوك مثل الصرعات التي  تتغيّر بسرعة، والناس يقبلون على المستحدث منها، ويرغبون عن القديم الذي فقد بريقه ولم يعدْ قادرا على اجتذاب المعجبين.
فهل يعمل فيسبوك على تكريس المصالحة مع المستبدّين والمفسدين بحكم التعوّد على “مشاركة” ما ينشر عن جرائمهم؟
ليس ذلك مستبعدا. واللافت أنّ ما يتسلّل إلى حساباتنا من الإعلانات ومنشورات الإثارة، يساهم في التشويش على المحتوى بتمرير أفكار ومعطيات مضلّلة.

وعندها، ستعجز شريحة كبيرة من جمهور فيسبوك عن التمييز بين الحقّ والباطل بسبب افتقارها للحس النقديّ والنضج المعرفيّ بقدرٍ ينبّهها إلى سذاجة بعض ما ينشر، وخطورة البعض الآخر، في فضاء افتراضيّ يستعمله الجميع لتوجيه الجماهير والتأثير عليها.
وفي الختام، يمكن القول إنّ المعركة التي تدار بأزرارٍ وتطبيقاتٍ قد تساعدك على قتل الوقت ومقاومة الملل في غرفتك الضيّقة بواسطة حاسوبك أو هاتفك الذي يتجسّس عليك

ولكنّها لن تطيح بالأشرار الذين تحرّكهم أزرار أخرى في أجهزة “التحكّم عن بعد”، موجودةٍ في عواصم الدول العظمى حيث يلعب الكبار بمصير الشعوب المغلوبة على أمرها.

 

 

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها