أتمنى لكم حظا سيئا!

أتمنى لكم حظا سيئا!

لا بأس أحيانا ببعض الحظ السيء، نعم الحظ السيء الذي يدفع الانسان ليعيد تقييم الموقف من جديد، الحظ السيء الذي يفرض عليه تغييرا ما، كان لابد من تغييره مسبقا لكنه كان خاضعا للمماطلة.

في إحدى حلقات برامج مواهب الأداء بنسخته البريطانية، صعد الشاب الصغير ذي الخمسة عشر ربيعا متعثرا متلعثما يكاد يقف قلبه من شدة التوتر، وقف أمام الحكام ليبادره أحدهم بطلب التعريف عن نفسه سائلا إياه عن سبب مشاركته في البرنامج.

هنا كانت المفاجأة حيث روى لهم عن مشاركته السابقة في البرنامج قبل عدة سنوات وما تعرض له من إهانة قاسية من أحد الحكام موضحا بأن السبب الرئيسي لوجوده معهم الآن هو رغبته العميقة بإثبات موهبته واستحقاقه للفوز وأن يبرهن لذلك الحكم بأنه يوما ما، قد كان على خطأ، أخطأ في تقييمه ومن ثم ضاعف الخطأ بطريقته الفجة في التعبير عنه.

استطاع ذلك الشاب بإجابته المختصرة أن يقلب موازين المعادلة خلال لحظات قليلة من إجابته، استرد ثقته بنفسه واستعاد رباطة جأشه وكسب تعاطف الجمهور ونقل حالة التوتر والارتباك الى الحكام وبخاصة ذلك الحكم الذي أساء اليه مسبقا.

في مكان وزمان آخران، في إحدى حفلات تخرج الطلاب وقد كنت محظوظة بوجودي مع جمهور الحفل خاطب مدير المدرسة طلابه اليانعين الفرحين بما أنجزوه من نجاحات صغيرة حتى اللحظة قائلا لهم: أتمنى لكم حظا سيئا!

وعاد ليكرر ما قاله مؤكدا عليه ونافيا لأية شبهة خطأ في النطق أو السمع، فقد قصد ما قال، وصح ما سمعوه، فقد تمنى لهم حقا حظا سيئا، لكنه ما لبث أن قدم لهم الشرح الوافي الجميل لما قاله، فبعد أن كسب اهتمامهم وأصغوا له بعد هذه البداية المثيرة غير المتوقعة، بدأ بتوضيح عدد من الأفكار والدروس التي حرص من موقعه ومنصبه على أن ينقلها لهم في آخر لقاء قد يجمعه معهم.

أكد في حديثه لهم على أهمية استشعارهم الحقيقي وإدراكهم لقيمة النعم التي يرفلون بها مشيرا على إنها على تنوعها فقد لا تدوم، الصحة والعافية، العائلة والأصدقاء، النجاح والتميز، الأمن والاستقرار وغيرها مما حصلوا عليه وقدمته لهم الحياة سهلا ميسرا دون جهد أو تعب، حيث إن الثبات النسبي في بعض الأحيان يكسب الفرد مشاعر خادعة توحي له بإمكانية دوام حال ما إلى ما لا نهاية، وعليه فقد  نقل لهم بكلمات من القلب حقيقة أن الحياة التي ينتظرونها لن تكون بأي حال مستقرة وثابتة على نحو واحد، فسوف تتقلب عليهم الأحوال وتتنوع ما بين الرخاء والشدة، السعادة والحزن وسوف تختلف بالطبع المسببات والنتائج.

ولكن الجزء المثير من هذه الحقيقة هو أنه لا بأس أحيانا ببعض الحظ السيء، نعم الحظ السيء الذي يدفع الانسان ليعيد تقييم الموقف من جديد، الحظ السيء الذي يفرض عليه تغييرا ما، كان لابد من تغييره مسبقا لكنه كان خاضعا لسيف المماطلة والتسويف، الحظ السيء الذي ينطبق عليه المثل القائل: الضربة التي لا تقتلك تجعلك أقوى.

وبالنظر إلى الواقع المحيط نجد أننا غالبا ما نحيط أبنائنا ومن يهمنا أمره بأمنيات الحظ الطيب والحياة السهلة الميسرة ذات الدروب الورية على الرغم من معرفتنا التامة وإيماننا المطلق بحقيقة أن الحياة بتقلباتها لم ولن تكون كذلك أبدا لأي كان، لم يشهد التاريخ من كانت حياته هادئة هانئة خالية من الفشل والإخفاق أو المرض والتعب أو القرارات السيءة وما ترتب عليها من مشكلات حياتية متنوعة، ولكن الفارق الرئيسي الذي أفرز التفاوت ما بين البشر هو الكيفية التي تعامل كل منهم فيها مع مشكلاته واختباراته الدنيوية.

ففي ذات الوقت الذي يستسلم فيه البعض ويرفع راية الإخفاق، ترى أناسا آخرين يسارعون بالنهوض والبدء من جديد ويواصلون السير وتحقيق النجاحات.

وكنتيجة لما سبق يبدو أنه بالرغم من أهمية أمنياتنا المُحبة بالحظ الطيب ودورها في إشاعة أجواء الأمل والتفاؤل الا أنها لن تكون كافية على الإطلاق لتهيئة الإنسان وبخاصة فئة الناشئة للتوقعات المستقبلية المنطقية لسير أحداث الحياة، وقد يكون الأكثر جدوى من تلك الأمنيات الزائفة هو العمل عبر الحوار والتدريب والقراءة على رفع مستوى الوعي والإدراك وإكسابهم المهارات النفسية والسلوكية اللازمة لتخطي وتجاوز المشكلات والتعامل معها كبدايات جديدة لا أنها المحطة الأخيرة.

وبالعودة إلى ذلك الشاب اليافع الذي قلب الطاولة على حكام برنامج المواهب، فقد أشار في حلقات لاحقة الى أن ذلك الحظ السيء الذي رافقه في المرة الأولى وآلمه بالطبع في حينها شكل عنده حافزا ودافعا عميقا للبدء من جديد، ولكن هذه المرة لم يكن الأمر اعتباطيا كالمرة الأولى بل كان مدروسا ومخططا له، فقد عمد إلى تطوير حقيقي لموهبته، وعلى مدار سنوات حصل على الدروس والتدريب الاحترافي اللازم الذي جعل منه أكثر قوة وأعمق إدراكا لنقاط ضعفه وكيفية تخطيها ونقاط قوته وطرق تعزيزها مما أوصله الى هدفه في نهاية الأمر.

وبالطبع، لم يكن هناك وحده، فقد كانت أسرته الداعمة الواعية تقف بجواره أملا وعملا في كلا الموقفين.

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها