ذكريات متناقضة

 

وكنتُ كلما تستهويني الكتابة، أجلسُ بين طيّاتِ أوراقي وقلميَ الأسود الذي أهديتني إياه مع وردةٍ بيضاءَ يوم ميلادي الثالثِ بعد زواجنا.. لن أنسى ذلكَ اليوم ما حييت.. كان وضعنا المادي مزرياً (نوعاً ما) ومع ذلك لم تُردْ أنّ يمرَّ هذا اليوم كباقي أيام السنة.. أردتَ أن تُخلده بطريقةٍ ما تسنى لأحدٍ أن استخدمها.. عدتُ يومها إلى البيت وثيابي قد أنهكتها زخاتُ المطرِ المتتالية.. حاولتُ إضاءة المصباح وكالعادة لا كهرباء.. بدأتُ أشتمُ حظيَ العاثر..

لا كهرباء، لا مصباح، ولا ماءَ ساخن … بدّلتُ ملابسي وتوجهتُ إلى المطبخ.. كنتُ أسمعُ صوتاً خفيفاً يصدرُ منه.. شعرتُ برهبةٍ، سرعانَ ما تلاشت عندما رأيتُكَ تخرجُ منه.. تنهدتُ بارتياحٍ وقلتُ:

= لقد أرعبتي ..

ضحكتَ بخفةٍ وأنتَ تُغلقُ بابَ المطبخِ خلفك..

= تُرعبين بلدةً بأكملها حبيبتي.. ماذا جدَّ الآن؟!

قلتُ بغضب:

= يا لكَ من أحمق.. كيفَ تتحدثُ هكذا.. أقسم أن لا أحدَ يتجاوزني في الرّقة.. ثمّ ماذا تفعلُ هنا الآن؟ ألستَ من أخبرني أنه لا يملك الوقتَ لاصطحابي ذهاباً وإياباً من المركز.. ها أنت تتسكعُ في البيت.. أعطني تفسيراً لهذا..

كنتَ تنظرُ إليّ بابتسامةٍ بلهاءَ ثمّ قلتَ ضاحكاً..

= يا لكِ من حقودةٍ صغيرتي..

ودفعتني إلى المطبخ.. شهقتُ بصدمة.. فقلتَ لي وأنتَ تقبلني على شعري:

= كلُ عامٍ وأنتِ حبيبتي..

التفتُ لكَ وقلتُ:

= يا إلهي كم أنتَ جميل.. هل قضيتَ اليوم وأنتَ تُجهِّزُ لهذه المفاجئة؟

نظرتَ بغرورٍ وقلت:

= وماذا تنتظرين في يومِ حبيبتي..

سحبتني من يدي إلى الطاولة وقلت:

= أغمضي عينيك وتمنَّي أمنية.. وبعدها تذوقي ما صنعته يداي..

فعلتُ ما طلبتَ.. استمرّيتُ بإغلاقِ عينَيّ لأكثرَ من دقيقتين ونزلتْ دمعةٌ من عيني كنتَ قد لاحظتها فسارعتَ بمسحها وقلت:

= لمَ البكاء حبيبتي؟ هل هناكَ خطبٌ ما؟

فتحتُ عينيّ وابتسمتُ لكَ مشيرةً برأسي أنه (لا) ثمّ قلتُ بمرح:

= هيّا سأبدأ بتقطيع الكعكة لنرَ ما صنعته يداك..

اقتربتُ من الكعكة وصُدمت أنا وانهرتَ أنتَ من الضحك.. تقدمتُ نحوك وقلتُ بصراخٍ غاضب:

= تسعةٌ وخمسون يا أحمق.. تسعةٌ وخمسون!!

وقذفتُكَ بالشمعةِ التي كانت تُزينُ كعكتنا.. أجبتني وأنتَ تحاولُ كتمَ ضحكتك بعد أن حضنت كتفَي:

= يا حبيبتي تَفَهَّمي موقفي الضعيف.. أنا لا أنظرُ إلى شهادة ميلادك لأعرف عمرك.. أنا أنظرُ إلى وجهك..

وانفجرتَ ضاحكاً.. كنتُ أودُّ تحطيمَ عظام جمجمتك من الغضب.. التفتُ إليكَ ونسيتُ غضبي وسرحتُ بضحكتك..

توقفتَ عن الضحك مُخلِّفاً أثراً يتجسدُ في ابتسامةٍ على شفتيك..

= هل أنا وسيمٌ لهذه الدرجة؟

= يا لغروركَ اللامحدود!

قاطع حديثَنا اتصالٌ جعلني أبدأ بالتذمر.. اعتذرتَ مني ونهضتَ إلى الخارج للردّ على الاتصال.. لم أحتجْ وقتاً لمعرفة مصدر الاتصال.. تنهدتُ بقوةٍ وجلستُ على الكرسيّ.. دخلتَ وأنتَ تعبثُ بشعرك بتوتر.. نظرتَ إليّ..

= أعلم.. هناك اجتماعٌ طارئٌ عليكَ حضوره.. أليسَ كذلك؟

= حبيبتي أنتِ.. ما عساي أفعل؟!

ابتسمتُ له ابتسامة رضًى عكسَ ما يدورُ في داخلي..

= اذهب.. أعادكَ اللهُ لي سالماً..

قبّلتَ جبيني وقلت:

= لا أعلمُ ما فعلت لأُرزق بمثلكِ فاتنتي..

وذهبت..

أعادني إلى واقعي صراخ صغيري.. توجهتُ إلى سريره وحملته.. بدأتُ أربتُ على ظهرهِ بخفة.. أُلاعبه تارةً وأتأملهُ تارةً أخرى.. يا إلهي كم يشبهك!!

وعدتُ إلى يومِ كنّا جالسَين على الأريكة نستمعُ إلى قصةِ أحد الشهداء.. نظرتُ لكَ بابتسامةٍ خفيفةٍ يُخالطها بعضٌ من الخوف.. لا أعلمُ سبب هذا الخوف.. ربما لشعوري بالرهبة من جلوسي في أحد الأيام مجلسَ زوجةِ الشهيد هذه.. نظرتَ إليّ وقلت:

= أين سرحتِ يا غزالة؟

= ما زلت هنا..

وأكملتُ بتوتر..

= خالد؟

= عيني خالد..

احترتُ في مجابهته بخوفي.. تركتُ مخاوفي تركنُ في ذاك الجزء من قلبي وقلتُ له:

= لطالما أردتُ أن أسرد بطولة أحد الشهداء في كتابٍ لي.. سيكون ذاك رائعاً إن فعلت.. أليسَ كذلك؟

نظرتَ أليّ بهدوءٍ وقلت:

= ستفعلينها حبيبتي..

= هل أنتَ جاد؟  قلتُها بابتسامة..

= نعم.. سأكونُ قد استشهدتُ.. لا تقلقي تعرفين عن حياتي ما لا أعرفُ أنا.. سيكونُ إنجازاً باهراً..

نظرتُ لكَ مطولاً وشرعت دموعي بالهطول.. وسارعتُ إلى غرفتي أبكي..

(عودة إلى الحاضر)

كنتُ من البداية أعلمُ أنّكَ اخترتَ ذلك الطريق وكنتُ قد سرتُ معكَ فيه خطوةً بخطوة.. شعور الخوف الذي اجتاحني يومها لم يكن من فراغ.. أحسستُ يومها بأنَّ ما تمنَّيْتَ قد اقترب..

لم يَمرّ سوى يومين..

ورحلت..

وتركتَ فيَّ قطعةً منك لم أعلم بها إلا بعد رحيلك بأسبوعين..

نظرتُ إلى صغيري الذي كان قد نام في حضني.. قبلته ووضعته في سريره وبدأتُ أتأملُ سكونه الذي اكتسبه منك كما تقولُ والدتُك..

حدّثتُه:

= أنتَ أجملُ ما وهبه القدر بعد والدك صغيري..

 

 

 

  

المدونة لا تعبر عن موقف أو رأي الجزيرة مباشر وإنما تعبر عن رأي كاتبها